المحاضرة الرمضانية السادسة والعشرون للسيد عبد الملك بدرالدين الحوثي 28 رمضان 1442هـ
| محاضرات وخطابات السيد القائد | 28 رمضان 1442هـ الثقافة القرآنية :
المحاضرة الرمضانية السادسة والعشرون للسيد عبد الملك بدرالدين الحوثي 28 رمضان 1442هـ – 10-05-2021م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وصلنا إلى قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}[الأنعام: من الآية152]، في الآيات المباركة من سورة الأنعام، وفي تعداد ما يُطلِق عليه المفسِّرون: الوصايا العشر، التي أتى التأكيد عليها بشكلٍ كبير في الآيات المباركة.
الله سبحانه وتعالى في هذا النص المبارك ينهى تحريماً عن قرب مال اليتيم إلَّا بالتي هي أحسن، فهو هنا يحرِّم كل أشكال الخيانة، كل العمل الذي دافعه الطمع للاستغلال الحرام لمال اليتيم، سواءً للأكل منه بغير حق، لأخذ شيءٍ منه، أو مصادرة جزءٍ منه، أو استبدال شيءٍ منه بما هو أدون، أو بمصادرته بكله، ويشمل أي حقٍ من حقوقهم.
اليتامى: هم فئة من أبناء المجتمع تحتاج إلى الرعاية، اليتيم: هو الذي فقد أباه، إما بالشهادة، أو الوفاة… أو بأي حالٍ من الأحوال، المهم أنه لم يعد والده على قيد الحياة في هذه الدنيا، سواءً كان عن طريق قتل، أو شهادة، أو وفاة، فاليتيم في مرحلة الطفولة- ويستمر يتمه حتى يبلغ، حتى البلوغ- بحاجة إلى الرعاية والحنو والحماية؛ لأن والده كان هو الذي يقوم بكل هذه المستلزمات، بكل هذا الدور الأبوي، يقوم بحماية ابنه، بحماية طفله، سواءً كان هذا الطفل ابناً أو بنتاً، يقوم بحمايته، برعايته، بالحنو عليه، بالعطف عليه، بالاهتمام به، رعاية وحماية؛ لأنه لم يعد والده على قيد الحياة في هذه الدنيا، ترك فراغاً كبيراً في حياته في إطار هذا الدور الأبوي.
والبعض قد يستغلون غياب الأب، غياب هذا الدور الأبوي في الحماية والرعاية، ويتجهون إلى ظلم اليتيم، هناك مسؤولية كبيرة جداً في القرآن الكريم يؤكِّد عليها كثيراً تجاه اليتامى، وتأتي التوصيات بشكلٍ متكرر في القرآن الكريم تجاه اليتامى، بالحث على إكرامهم، بالحث على حسن رعايتهم، بالحث على حمايتهم، وصون حقوقهم، والحفاظ على ممتلكاتهم، ويتكرر هذا في القرآن الكريم كثيراً، وبعبارات فيها تأكيد، تأكيد كبير.
المسؤولية تجاه اليتامى تبدأ من محيطهم الأقرب، ممن لهم صلة بهم على مستوى الرعاية الأسرية، والمسؤولية الأسرية، تبدأ من الأخ، أو من الإبن الأكبر لليتامى، إذا كان هناك أخ أكبر للصغار، تبدأ المسؤولية عليه ابتداءً، إذا كان هناك أيضاً إذا لم يكن هناك أخ أكبر وهناك عم مثلاً، أو جد قبل العم، تبدأ المسؤولية من المحيط الأقرب على المستوى الأسري، ثم تمتد هذه المسؤولية في إطار المجتمع، في العناية باليتامى على المستوى التربوي، وعلى المستوى المادي، وعلى مستوى حسن الرعاية، وحسن التعامل، والإكرام، والاحترام، وتعويض الفراغ الكبير الذي تركه الأب عادةً، في الحنو، والشفقة، والرحمة، والعاطفة، والإكرام، ولهذا يأتي التوبيخ للمجتمع الجاهلي في قول الله سبحانه وتعالى: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}[الفجر: الآية17]؛ لأن العلاقة مع اليتيم يجب أن ترقى إلى مستوى الإكرام، الإكرام سواءً على مستوى التخاطب، التعامل، الرفع من معنوياته، الرفع من معنوياته، هذه نقطة هامة جداً، أو على مستوى العناية به على المستوى المادي.
في هذا الزمن كما في مراحل كثيرة من التاريخ، يكثر الأيتام مع الأحداث الكبيرة، مع ما تواجهه الأمة وتعانيه من هجمة شرسة من أعداء الإسلام والمسلمين وعملائهم، وما يتسببون به من إراقة الدماء، وسفك الدماء، وقتل الأبرياء بأعداد كبيرة، هذا ينتج عنه وجود الكثير من اليتامى، الذين يجب أن يلتفت إليهم المجتمع جيداً؛ باعتبارهم وصية الله، وأمانة الله سبحانه وتعالى، وأن يدرك المجتمع بشكلٍ عام مسؤوليته تجاههم؛ لأنه لا بدَّ من تعاون الجميع، إضافةً إلى محيطهم الأقرب، أن يكون هناك استشعار لحجم هذه المسؤولية، وأهمية هذه المسؤولية، ثم تقوى الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بالحفاظ على ممتلكات اليتامى.
وللأسف الشديد قد يأتي الظلم من محيطهم الأقرب، قد يكون من يمارس مثل هذا النوع من الظلم في أكل مال اليتامى، في بعض الأسر قد يكون هو الأخ الأكبر، يعتبرها فرصةً ذهبية، ثم يتجه إلى أن يقتطع حصةً أكبر، أو يختار أيضاً من أموالهم أماكن، إما مزارع ذات أهمية أكثر، أو أماكن، أو قطعاً من الأرض إذا كانت على مستوى الأراضي، أو على مستوى النقد، قد يقتطع كذلك… أو غير ذلك؛ لأن المال يشمل كل جوانب المال، سواءً العقارات، الأراضي، المزارع، النقد… غير ذلك.
أحياناً العم قد يتجه كذلك لتصرف من هذا القبيل، أو على مستوى أبعد في المحيط الأسري، والبعض من أبناء المجتمع كذلك، البعض من أبناء المجتمع على مستوى القرية الواحدة، أو المنطقة الواحدة، قد يتجه بدافع الطمع لارتكاب هذه الجريمة، وأحياناً قد يكون في إطار الدور الذي ظاهره الرعاية والعناية بمال اليتيم، من خلال أن يقوم الإنسان وكأنه مهتم بمال اليتيم، وقد يهتم فعلاً، ولكنه يستغل هذا الدور الذي يقوم من خلاله بالعناية بمال اليتيم، بأخذ أشياء كثيرة فوق المعروف، أو وهو مستغنٍ لا حاجة له إلى ذلك، كل هذا من الاستغلال الحرام، السيء، وظلم الضعيف هو من أسوأ وأبشع أنواع الظلم؛ لأنك هنا تظلم طفلاً يتيماً صغيراً، تستغل ظروفه الإنسانية، وقد فقد الحماية التي كان يقوم بها والده في حمايته، وحماية ممتلكاته، فتكبرك وتعديك وظلمك لطفلٍ صغيرٍ يتيمٍ ضعيفٍ، من أقبح وأبشع وأسوأ أنواع الظلم، حالة من الانحطاط، حالة من الدناءة، من التكبر، أن تنزل إلى ظلم طفل صغير؛ لأنك استقويت عليه، واعتبرته صغيراً وطفلاً، يعتبر جرماً عظيماً.
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، والحالة التي هي أحسن: هي رعاية ماله، العناية بالحفاظ على ممتلكاته، وصون ممتلكاته، العناية بالمال، والعناية بنموه، ما كان من مثل مزارع أو نحواً من ذلك، يحتاج إلى الحفاظ على نمائه، مع صيانته والحفاظ عليه.
{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، حتى يبلغ اليتيم البلوغ الشرعي، الذي يمتلك فيه النضج العقلي، والقدرة البدنية للقيام بمسؤولياته هو تجاه ماله، وحينها ليس لكم أي ولاية عليه، ويبقى هو بشكلٍ مستقل المعني وصاحب الولاية على ممتلكاته.
في نفس السياق أتت آياتٌ قرآنيةٌ أخرى في سورٍ أخرى، من بينها في سورة النساء، وهو يؤكِّد على العناية بالحفاظ على ممتلكاتهم، وإعطائهم ممتلكاتهم، والتحذير من أخذ شيءٍ منها، أو نهب شيءٍ منها، أو مصادرة شيءٍ منها، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}[النساء: من الآية2]، من خلال أن تستبدل شيئاً من مالك، وتأخذ من ماله؛ لتغالطه، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}[النساء: من الآية2]، من خلال أن تصادر من ماله شيئاً تأكله، أو تصادر كل ماله، {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}[النساء: من الآية2]، إثماً فظيعاً، شنيعاً، قبيحاً، دنيئاً، خسيساً، فهو وزر وذنب فيه دناءة، فيه انحطاط؛ لأن الإنسان تكبر وطغى وتجبر على طفل صغير يتيم مسكين.
يقول الله سبحانه وتعالى أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}[النساء: من الآية10]، نعوذ بالله، هذا وعيد شديد جداً، من يأكل أموال اليتامى ظلماً، بمصادرة، أخذ بغير حق، فله هذا الوعيد الشديد، الوعيد بجهنم، الوعيد بعذاب الله، وسيأكل في المقابل من زقوم جهنم، من عذابها، من جحيمها، {نَارًا}، تستعر النار في بطنه، حتى ليقال: أنَّ من علاماتهم يوم القيامة: أنَّ النار تشتعل في بطونهم، وتخرج من أفواههم؛ لأنهم كانوا يأكلون أموال اليتامى، جريمة رهيبة جداً، وما أكبر خسارة من يفعل ذلك! سينسى كل ما كان قد ارتاح في هذه الدنيا؛ لأنه أخذه على اليتيم ومن أموال اليتيم، وبطنه يستعر، يحترق بجحيم النار والعياذ بالله، وهو يأكل الزقوم الذي يغلي في البطون كغلي الحميم، وهذه جريمة كبيرة؛ لأنها من كبائر الذنوب التي يمكن أن يدخل بها الإنسان- بل حتماً سيدخل بها من يفعل ذلك، من يرتكب هذه الجريمة- إلى النار، ولا ينفعه أي عملٍ آخر: لا تنفعه صلاته، لا ينفعه صيامه، لا ينفعه أي عملٍ صالح، ولا يقبل منه أصلاً، ويكون مصيره إلى جهنم والعياذ بالله، {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء: من الآية10]، هذا ختام الآية: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، فهم من أهل الكبائر الموجبة للدخول في جهنم، التي تصل بمرتكبها إلى النار والعياذ بالله، ولا ينفعه أي عملٍ آخر، فهذا وعيد شديد جداً.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}[النساء: من الآية6]، في إطار العناية بهم على المستوى التربوي، وعلى مستوى الرعاية، بحاجة إلى الاهتمام بهم في هذا الجانب: التمرين لهم، والاختبار لهم، والتربية لهم للقيام بأمورهم بشكلٍ متدرج، مع الإشراف عليهم في ذلك، {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}[النساء: من الآية6]، وصل إلى مستوى البلوغ الشرعي، الذي يمكنه فيه أن يتزوج، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النساء: من الآية6]، عندما يصل إلى مستوى البلوغ الشرعي، الذي يمكنه به الزواج، في حينها إذا لوحظ منه من خلال تصرفاته، وما يقوم به من أعمال بالتدريج، في إطار الإشراف عليه، والتمرين له، والتعويد له، والتشجيع له، وإعطائه مستوى معين من الإمكانية للتصرف، من المهام العملية للقيام بها، فإذا لوحظ منه الرشد، حسن التصرف، النضوج العقلي، يعني: عنده فهم كيف يتصرف، معرفة كيف يعمل، ليس ساذجاً، يمكن أن يغبن غبناً فاحشاً، وأن يضحك عليه الطارف، لا، ولا يحتاج هذا إلى أن يكون عبقرياً في الخبرة الاقتصادية والمالية، حتى يجعل الإنسان من ذلك عذراً بعدم تسليم ماله إليه، لا، في المستوى المعروف، في المستوى المألوف، في المستوى الاعتيادي بين الناس.
{فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا}[النساء: من الآية6]، يكون الإنسان متجهاً إلى استغلال فرصة اليتم لدى اليتيم لأكل ماله، فيبالغ في استهلاكها إسرافاً، ويسارع حتى لا يكبر اليتيم إلَّا وقد قضى عليها، هذه جريمة بشعة جداً.
{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}[النساء: من الآية6]، من كان غنياً فلا يأخذ شيئاً من أموال اليتامى، {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء: من الآية6]، من كان فقيراً واحتاج إلى أن يفرِّغ من وقته، من اهتمامه جزءً للعناية بأموال اليتيم، وعليه ظروف معيشية، والتزامات معيشية ضاغطة في المقابل، فهو إن فرَّغ من وقته للعناية بمال اليتيم، قد يتضرر في معيشته، في هذه الحالة يمكنه أن يأكل بالمعروف، بمقدار الأجْرَة الطبيعية المعتادة، من غير انتهازية وأخذ الزائد.
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النساء: من الآية6]، عندما يبلغون الرشد والبلوغ والنضج، {فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}[النساء: من الآية6]، يكون هناك شهود أثناء التسليم للمال، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}[النساء: من الآية6]، الله هو الرقيب، لا يخفى عليه شيءٌ مما يمكن أن يكون الإنسان قد تحيل بحيل وأساليب التفافية لأخذه، أو إخفائه، أو الإنقاص منه، وفي نفس الوقت هو الحسيب سبحانه وتعالى الذي سيحاسب الجميع يوم القيامة.
فنجد في هذه التوصية ما يكفي ويفي في التأكيد على الاهتمام باليتامى، في إكرامهم، في حسن رعايتهم التربوية والمادية، هم بحاجة أيضاً إلى العناية التربوية، إضافةً إلى العناية بهم في صون حقوقهم، في الحفاظ على ممتلكاتهم، في تنمية أموالهم، هم بحاجة أيضاً إلى العناية بهم على المستوى التربوي، في حسن تربيتهم، في العمل على تأهيلهم على المستوى المعرفي، وعلى المستوى الأخلاقي، وعلى المستوى العملي؛ لكي يتأهلوا للقيام بمسؤولياتهم في هذه الحياة عندما يكبرون.
وكما قلنا: في هذه الظروف التي تعاني منها الأمة من حروب هو يكثر فيها اليتامى، تكبر المسؤولية، ومن المهم أيضاً ملاحظة أن من الأكثر عرضةً بين اليتامى للظلم اليتيمات، قد يتعرضن أيضاً في كثيرٍ من الحالات لظلمٍ أكثر، البعض من الناس مثلاً قد يستشهد أو يتوفى ولديه يتيمات، أو لديه يتامى ويتيمات، يعني: اليتامى ذكوراً وإناثاً، فإما أن يأتي الغبن لليتيمة من أخيها، أو من عمها، أو من قريبها، وهذا ظلم كبير جداً، يعظم الظلم، وتكبر حالة الظلم، (وظلم الضعيف أفحش الظلم)، كما قال الإمام علي “عليه السلام”: (وظلم الضعيف أفحش الظلم)؛ لأن فيه دناءة، فيه انحطاط، ليس فيه رجولة، ولا أي مظهر من مظاهر القوة أبداً، دناءة وانحطاط عندما تتعدى على ضعيف.
وتمتد مثل هذه السلوكيات من ظلم الضعيف، إلى ما يتعلق بالنساء بشكلٍ عام، سواءً فيما يتعلق بإرثهن، حتى وهن كبيرات، الكثير منهن يظلمن في إرثهن، وهذا من ظلم الضعيف، من الظلم الحرام، والوعيد عليه في القرآن الكريم بنار جهنم، وهي قضية خطيرة جداً، تكثر في المجتمعات، ما أكثر ما يحصل هذا الظلم في أخذ إرث النساء، وفي أكل إرث النساء، وهي قضية خطيرة جداً، أي إنسان حريص على براءة ذمته، حريص على سلامته من عذاب الله، على أن تكون أعماله مقبولة، فليحرص على الخلاص من هذا الظلم، أن يتخلص من هذه الظلامة؛ لأنها ظلامة خطيرة جداً.
من أنواع الظلم التي تحصل، وهي شبيهة بهذه الحالات، هي ما يتعلق بمال الأوقاف:
كذلك يكثر التعدي على مال الوقف، وعادةً ما يكون مثل هذا التعدي- في كثيرٍ من الحالات- ممن لهم ولاية من الورثة، من ورثة الموقف، ولو على مستوى ثالث درجة، أو رابع درجة، أو خامس درجة، أحياناً يكون قد مر أجيال من زمن الموقف نفسه، البعض من الورثة يتجهون إلى أخذ حصة الوقف، مستغلاته؛ لأن لهم ولاية اليد في القيام به، وأخذ حصتهم في ذلك، لكنهم لا يكتفون بحصتهم، يتجهون إلى أكل المستغلات بكلها، فما نتج عن الوقف، وما حصل منه من محصول:
- سواءً محصول نقدي، فيما يبيعونه بالنقد.
- أو غير ذلك.
يأخذونه بكله، وبالذات في المراحل التي ضعفت فيها العناية بالمتابعة لأموال الأوقاف، والمتابعة لصرفها في مصارفها التي أوقفت لها، وكثر هذا، مع أن أموال الأوقاف كثيرة، مثلاً: في مجتمعنا في اليمن هناك أوقاف كثيرة، وتوجد الأوقاف في بقية المجتمعات.
فالبعض من الناس أيضاً اغتنموا فرصة أنه ليس هناك من يتابعهم، من يضغط عليهم، من يراقبهم ويحاسبهم، فاتجهوا إلى استغلال ذلك بأكل أموال الأوقاف، وهذه:
- جريمة كبيرة، وخيانة عظيمة.
- وإغراقٌ للذمة بالمال الحرام، إغراقٌ للذمة.
- وخيانة للموقف، الذي أوقف الوقف: وقد يكون قريباً للذين ينتهكون هذه الحرمة، ويخونون هذه الخيانة، قد يكون جدهم، قد يكون أباهم، قد يكون قريباً من أقاربهم، ولو كما قلنا جداً من أجدادهم القدامى، فهم يخونون الموقف.
- وهم في نفس الوقت يخونون المصرف: إذا كان هذا الوقف لمسجد، فأنت تتحمل الوزر تجاه الذي خنته، وهو الموقف لهذا الوقف، وتجاه المصرف، وهو المسجد، وقد يتسبب هذا:
- في نقص في عمران ذلك المسجد.
- في القيام بصيانته.
- بتوفير احتياجاته.
فالإثم كبيرٌ جداً:
-
-
- على أصل الخيانة.
- وعلى ما ينتج عنها، ويترتب عليها، آثارهم، آثارهم.
-
ومع الوقت والاستمرارية في أكل ذلك المال الحرام تغرق الذمة أكثر فأكثر، البعض من الناس قد تكون المسألة بالنسبة لهم عشرين عاماً من الخيانة، والأكل للمحصول على المستوى السنوي، أو النصف سنوي، أو على مستوى المحصول الذي يأتي بشكلٍ مستمر، في أوقات متتالية في العام، فيصبح المبلغ كبيراً، نسبة الخيانة، وما قد أكله على الوقف، فإذا مات بعد ثلاثين سنة، أربعين سنة، خمسين سنة من الخيانة المستمرة، يكون المبلغ قد أصبح مبلغاً كبيراً، وسداده مرهق، وسداده متعب، وقد لا يتشجع الورثة إلى أن يخلصوك، وأن يخلصوا ذمتك، من هذا المبلغ الكبير، والوزر الكبير، الذي قد تحملته.
البعض يفعلون أكثر من ذلك، قد يبيع أرضاً هي للوقف بالبيع الكامل، طمعاً في المال ويستهلكه، وقد يكون هذا- كما قلنا- وقفاً لمسجد، أو وقفاً لفقراء، أو وقفاً لأي مصرف من المصارف التي هي قربة إلى الله “سبحانه وتعالى”، ووقف الواقف متقرباً إلى الله “سبحانه وتعالى” بالوقف عليها.
فهذه من أكبر المظالم التي تحصل، هذه مظالم حاصلة، قائمة في مجتمعنا، وحتى مع وجود المحاسبة، فالبعض من الناس لا يدفعون إلا بشِق الأنفس، بمطالبة شديدة، بضغط عليهم مستمر، وكأنها ستزهق أرواحهم، كأن المتحصل أو المحاسب سينزع أرواحهم من أجسادهم، بشق الأنفس يخرجونها، بضغط شديد، وملاحقة شديدة، فإذا وجدوا ألَّا مناص، أخرجوا، وقد يكونوا قد تحيلوا وأخذوا البعض بدون وجه حق.
الآن هناك هيئة الأوقاف تأسست، وعلى أساس أنها ستقوم بدورها- إن شاء الله- في المتابعة والعناية بالأوقاف، يفترض من أبناء شعبنا العزيز، يمن الإيمان، مع الاستشعار للمسؤولية أمام الله “سبحانه وتعالى” أن يتعاونوا مع الهيئة، وأن يكونوا جادين في تخليص ذمتهم والخلاص من هذه المظالم، وأن يتعاملوا بجدية في إخراج حق الوقف وحصة الوقف مما لديهم وتحت ولايتهم، وأن يتعاون الجميع على مستوى المجتمع، الجهات ذات العلاقة في الدولة، الكل أن يتعاونوا في هذه المسألة، حتى لا يبقى الإنسان في حالة خيانةٍ مستمرة، ويغرق ذمته بالمال الحرام.
يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[الأنعام: من الآية152]، بعد أن نهى عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، فلا يقترب الإنسان منه بأي دافع لطمع، أو استغلال حرام، أو نحواً من ذلك، أتى بعد ذلك الأمر بالوفاء بالكيل والميزان بالقسط، بالعدل، حرمة الغش في المعاملة المالية والتجارية والاقتصادية، مما يأتي التأكيد عليه كثيراً في القرآن الكريم، وعن النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”؛ لأن المسألة في غاية الأهمية، ومسألة حساسة جداً، الغش في الكيل والميزان؛ لأن الكيل والوزن وسيلة للمعاملة بالعدل، فإذا لعب الإنسان فيها وتعامل فيها بالغش، فهو يسيء إلى معيار من معايير العدالة، ويغش، ومع الاستمرارية كذلك قد يغرق الإنسان ذمته، البعض قد يجعل- بعض أصحاب الدكاكين- الزيادة، سواءً في ميزان، بأي أشكال من أشكال الموازين، في هذا الزمن هناك ميزان بالرقم، هناك موازين بأشكال متنوعة، البعض من أصحاب المحلات التجارية، من أصحاب الدكاكين، أو البقالات، قد يحاول أن تكون الزيادة قليلة، يزيد قليلاً، مع الاستمرارية يغرق ذمته، يغرق ذمته بالمال الحرام، مع الأفضل لك أن تتحرى الدقة في ذلك، حتى لو كان هناك نقص قليل، ولا أن تزيد ولا قليلاً، ولا قليل؛ لأن هذا القليل الذي يكثر يكثر يكثر مع الاستمرار في المعاملة، مع الاستمرار في حركة البيع والشراء، بعد سنوات سيكون بحجم كبير، مع أنك ستسأل على مثقال الذرة، مثقال الذرة من الخير، أو الشر، مكتوب.
فعندما يكون ما يزيد، ولو قليلاً، ولو قليلاً، ثم يستمر ذلك، يستمر يستمر يستمر، وأنت تقول تتهاون وتستبسط المسألة: [هي زيادة قليلة، قد تكون حفنة، قد تكون شيء قليل]، ثم تغالط تغالط باستمرار، متعمداً لذلك، متعمداً لذلك، هذا يحملك وزراً كبيراً، وإثماً عظيماً، الله يريد للمسلمين أن تكون معاملاتهم بمعيار العدل، معاملات قائمة على أساس العدل، لا يكون فيها أي ظلم، الدين المعاملة، وفائدة الدين، هي لاستقامة الحياة، ثم يأتي الجزاء بعد ذلك في الآخرة، وهذه نقطة مهمة جداً، ونرى أهمية هذه المسألة في الاستقرار الاقتصادي والنماء الاقتصادي، إذا ترك الناس الغش، وتعاملوا بأمانة، على مستوى المقادير بأشكالها وأنواعها، سواءً المقدار بالكيل، أو الوزن، الموازين بأنواعها، حتى على مستوى ما يوزن بالكيلو غرام، ما يوزن بالطن، ما يوزن بأي أنواع من الموازين، إذا تعامل الناس بالأمانة في المقادير، وفي الجودة والمواصفات، ولم يستخدموا الغش وسيلةً في المعاملة، وأسلوباً في المعاملة، فستأتيهم من الله البركات في أرزاقهم، وسيعزز هذا حالة الاطمئنان في المعاملة حتى لدى المستهلك، لدى البائع والمشتري، تسود حالة الاطمئنان النفسي والثقة، وهذا مهمٌ جداً- كما قلنا- في الاستقرار الاقتصادي، وفي النماء الاقتصادي، ينتعش الاقتصاد، والناس يتعاملون باطمئنانٍ تام، وثقةٍ، ومع ذلك حتى الزبون زبونك يتعامل معك باطمئنان؛ لأنه جرب معك الأمانة، وعرف فيك الأمانة، يكثر زبائنك، فهذه مسألة مهمة جداً.
والمسلمون بحاجة اليوم إلى أن يعودوا بجدية إلى تصحيح وضعهم في المعاملة الاقتصادية، أصبحت الشهرة في الجودة، أصبحت الشهرة في الأمانة، للمجتمعات غير المسلمة أكثر من المسلمين، وهم حرصوا على ذلك؛ لأنهم أدركوا أهميته في النجاح الاقتصادي، في النماء الاقتصادي، أدركوا أن الجودة، أن الإتقان، أن المقادير الدقيقة، أن المعاملة بدقة، بانضباط، بمواصفات مغرية وجذابة، عاملٌ مهم في النجاح الاقتصادي، فاتجهوا إلى ذلك، واستفادوا من ذلك، لاحظوا على مستوى اليابان، اقترن في الذهنية العامة لدى الناس جودة المنتجات منتجاتهم بنسبتها إليهم، حتى أصبح يتبادر إلى الذهن، ذهن المستهلك الذي يشتري البضائع، عندما تقول عن أي شيء ياباني، أنه أصلي، هم اعتمدوا الجودة معياراً أساسياً في إنتاجهم، فأصبح يتبادر إلى ذهنية المستهلك في أي مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية عن أي منتجٍ ياباني أنه أصلي، فأصبح مقترناً كونه ياباني بكونه أصلي.
نحن كمجتمعات مسلمة يجب أن نتفوق على كل المجتمعات الأخرى؛ لأن الحافز عندنا ليس فقط حافزاً اقتصادياً، بدافع فقط النجاح الاقتصادي، وإنما أيضاً هو دافع إيماني، من ضمن التزاماتنا الإيمانية، من ضمن التزاماتنا الدينية، أن نتقي الله “سبحانه وتعالى” فيما ننتجه فنعمل بالأمانة، الأمانة في المقادير، والكميات، وما تحسب به، في كيلٍ، أو وزنٍ، بكل أشكاله، والأمانة في المواصفات، والحذر من الغش في المواصفات، المنتج لأي منتج اقتصادي، أي منتجٍ كان، سواءً وأنت تصدر إلى السوق محاصيلك الزراعية من فواكه أو خضروات، لا تغش لا في المقدار، ولا في الصفة، توجهها بوجه جميل وجذاب، وما تحتها سيء، وتظهر للمشتري أنها كلها على ذلك النحو الذي يرى ظاهرها عليه، فإذا أتت الأمانة، تأتي البركة، والنجاح، وتتعزز الثقة والاطمئنان، وينتعش الجانب الاقتصادي، وهذا يدل على أهمية الجانب الاقتصادي في الإسلام، تأتي فيه تشريعات كثيرة، وذات أهمية كبيرة، والالتزام بها جزءٌ أساسيٌ من الالتزام الديني والإيماني، حتى لقد ورد عن النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” أنه قال: (الدين المعاملة).
نكتفي بهذا المقدار.
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛