المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1444هـ
| محاضرات السيد القائد | 15 رمضان 1444هـ الثقافة القرآنية:
المحاضرة الرمضانية الرابعة عشرة للسيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي “يحفظه الله”
الخميس 15/رمضان/1444هـ – 6/أبريل/2023م
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
في المحاضرات السابقة، وفي سياق الحديث عن خطورة الشيطان، وعن عداء إبليس للإنسان، كان في مقدمة ما تبيّن لنا من خلال آيات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وما بيَّنه الله في تلك القصة هو: أن الدافع الأساسي للشيطان، في عصيانه لأوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي رفضه للسجود لآدم، هو الكبر.
الكبر هو من أعظم الذنوب، ومن أخطرها، ومن أكثرها تأثيرًا سيئًا على الإنسان، أو على أي مخلوقٍ كان من الكائنات المكلفة (كالجن).
الكبر يتفرع عنه الكثير من المفاسد الكبيرة والرهيبة، والذنوب العظيمة الفظيعة؛ ولذلك كان هو أول معصية عُصي الله بها، وكان هو ذنب إبليس، الذي تورط به، وسبّب لنفسه من خلاله أن يخسر مكانته، وإيمانه، ومستقبله عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
الله “جَلَّ شَأنُهُ” يقول في القرآن الكريم: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة: الآية34]، فعصيانه كان تكبرًا، كان من منطلق التكبر.
- والمفاسد الرهيبة لتلك المعصية (معصية التكبر والكبر) هي خطيرةٌ جدًّا:
- في مقدمتها الكفر: في كثيرٍ من الحالات، حالات الكثير من الأمم، من الملأ، من الشخصيات، كان الدافع لهم إلى الكفر هو تكبرهم.
- أيضًا من المفاسد الرهيبة جدًّا للكبر هي: الصدّ عن سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: فكثيرٌ من الذين يتحركون في الصدّ عن سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الدافع لهم إلى ذلك هو الكبر، جدالهم في آيات الله، عملهم على التصدي لأولياء الله، وصد الناس عن اتِّباع هدي الله ونهج الله، والتَّمسك بالحق، دافعهم إلى ذلك بشكلٍ أساسي هو الكبر.
- من المفاسد الرهيبة للتكبر: هي الظلم: كثيرٌ من الظالمين، وكثيرةٌ هي أسباب الظلم، التي تعود إلى الكبر.
وهكذا مفاسد أخرى- يأتي الحديث عن بعضها في سياق الكلام- تتفرع عن ذلك الذنب، فإذا كان ما يتفرع عنه هو الكفر، هو الصد عن سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو الظلم، هو الأنفة من اتِّباع الحق، فكيف لا يكون ذنبًا عظيمًا؟ وهذه فروعه، فروعه من الموبقات الكبيرة جدًّا.
في كل التاريخ، وفي التصدي للرسالة الإلهية، كان الذي يتصدَّر الموقف: هم المستكبرون، كان الذي يَبرُز في الواجهة، ويتصدر الموقف، ويحرِّك الآخرين، في التكذيب برسالة الله، والكفر برسل الله، والمحاربة لأنبياء الله، والسعي لإبعاد الناس عن نهج الله وعن دين الله، هم المستكبرون.
ولذلك تكرر في القرآن الكريم، وهو يعرض ما عرضه عن الأمم الماضية، وعن موقفها من الرسل والأنبياء، ومن دعوة الله ورسالته، فيقول: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}[الأعراف: من الآية88]، ثم يذكر موقفهم في التكذيب، في الصد عن سبيل الله، في الدفع بالناس إلى المحاربة لرسالة الله، فهم كانوا يتصدرون الواجهة، ويبّين أن الدافع لهم هو الاستكبار (حالة التكبر)، يقولون: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}[إبراهيم: من الآية10]، يعني: كيف نؤمن بكم، كيف نقبل باتَّباعكم، وأنتم بشرٌ مثلنا؟ {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}، كل هذا يعبرّ عن حالة التكبر.
من النماذج- أيضًا- السيئة للاستكبار والتكبر: هو فرعون، فرعون، وهامان، وملأه، الملأ من قوم فرعون. قوم فرعون كان لهم قصة طويلة وكبيرة، تكرر الحديث عنها في القرآن الكريم، وبيّن في كثيرٍ مما ذكره عنهم أن السبب الأساسي والرئيسي- إلى حدٍ كبير- هو التكبر، {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}[المؤمنون: من الآية47]، هكذا.
فالتكبر هو حالة خطيرة جدًّا، والتعريف له، كما في الحديث النبوي عن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: ((الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ))، عندما ترفض الحق، تأنف من تقبُّل الحق، أو إعطاء الحق؛ لأنك ترى نفسك فوق ذلك، إمَّا بشكلٍ عام، أو تجاه بعضٍ من أمور الحق، من أمور الدين، من أمور مما في تعليمات الله وتوجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ أمَّا (الغمط للناس) فهو احتقارهم وازدراؤهم، ليس هناك ما يبرر للإنسان أن يحتقر الناس، أن يحتقر أي أحدٍ من الناس، فالمتكبر هو يرى نفسه أعلى شأناً، وأهم من أن يقبل بشيءٍ من الحق، إمَّا بشكلٍ عام، أو أشياء معينة من الحق، أو أن يعطي ذلك الحق على نفسه، أو يكون في تعامله مع الناس وفي نظرته إليهم يحتقرهم، ويزدريهم، فاحتقاره لهم، وازدراؤه لهم، وما يُبنى عليه من طريقةٍ في التعامل معهم، هو يعود الى الكبر والعياذ بالله.
من أهم ما ورد في القرآن الكريم، مما يبين خطورة التكبر هو: موقف الإنسان من هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، عندما لا يقبل بهدى الله، هي على كل حال حالة تكبر؛ لأن حق الله عليك في أن تقبل هديه، أنت عبدُه، أنت مربوبٌ له، هو خالقك، هو ربك، هو إلهك، فعندما لا تقبل بآياته، لا تقبل بتعليماته، ترفضها، تُذَكَّرُ بها، ثم تستكبر، تُصرّ على ما أنت عليه ولا تقبل بها، الحالة هذه هي حالة تكبر، ولهذا يقول الله في القرآن الكريم عمَّن هذا حاله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَـمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[لقمان: الآية7]، عندما تُذَكَّرُ بآيات الله تجاه أي شيء من الأمور:
- إمَّا شيء لتفعله، أنت غافلٌ عنه، أو أنت مقصرٌ فيه.
- أو لتقبله، تُذَكَّرُ بشيءٍ من الحق، من خلال آيات الله تُتلى عليك؛ لتقبل بذلك الحق.
- أو لتُقلِع عن شيءٍ من المعاصي، أو الذنوب، أو الأعمال السيئة، فَتُذَكَّرُ بآيات الله، وتُتلى عليك آيات الله؛ لإقناعك بذلك، لتنبيهك تجاه ذلك، لتذكيرك من خلالها تجاه ذلك.
فلم تقبل، ولم تبالِ، ولم تتأثر، واتجهت اتجاه الإعراض والرفض والعناد، فهذه الحالة هي حالة تكبر؛ لأن حق الله العظيم عليك، وهو ربك العظيم، إلهك المنعم عليك، الخالق لك، هو ملك السماوات والأرض: أن تقبل توجيهاته، تقبل تعليماته، أن تتجه وفق أوامره، أن تنتهي عمَّا نهاك عنه، فكيف إذا ذُكِّرْتَ بآياته، بكلماته، بتوجيهاته، فلا تقبل؟! حالة خطيرة، تتعامل كما ورد في الآية المباركة: {كَأَنْ لَـمْ يَسْمَعْهَا}، كأنك لم تسمع تلك الآية التي ذُكِّرْتَ بها، فيما ورد فيها، فيما يدعوك الله من خلالها إليه، فيما ينهاك عنه، فأنت ذلك الذي لم تقبل، ولم تتأثر، وبقيت مُصِرًّا على ما أنت عليه، إمَّا من فِعلٍ مُحرم، أو من تركٍ لما أمر الله به، فهذه الحالة حالة خطيرة من حالات التكبر تجاه آيات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتجاه قبول الحق من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أو إعطاء الحق الذي عليك، وهي حالة خطيرة جدًّا.
من مظاهر التكبر: التكبر الذي في سلوك الإنسان، في تعامله، في حركته في الحياة، في طريقة تعامله مع الناس، أو في سلوكه العام، الذي يظهر فيه- من أُسلوبه وطريقته- ما يعبِّر عن حالة الازدراء للناس، أو التعالي على الحق، فهو ذلك الذي يتعامل بطريقة سلبية مع الناس، مثلما ورد في التحذير في القرآن الكريم: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[لقمان: الآية18]، لا تصعر خدك على الناس، لا تُشِح بوجهك مُعرضًا عنهم إلى الأعلى تكبُّرًا عليهم، ازدراءً لهم، هذا من مظاهر السلوك الذي يعبِّر عن التكبر، عندما لا تُقبِل على من تتخاطب معه، لا تلتفت إليه، لا تنظر إليه، أو هو يتخاطب معك، وأنت ذلك الذي- لازدرائك- له لا تتنازل إلى درجة أن تُقبِل عليه، أن تصغي له، أن تلتفت إليه، فهي حالة من حالة التكبر، وكم هناك من السلوكيات، التي من المتعارف على أنها تعبِّر عن حالة التكبر والازدراء للآخرين، في طريقة تخاطب الإنسان مع الآخرين، في صوته، في عباراته، هناك عبارات تعبِّر عن حالة تكبُّر، وعن حالة ازدراء لمن تتخاطب معه، أو احتقار، وهي حالة خطيرة جدًّا على الإنسان.
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}، حتى حركتك لا تكون حركة المتكبر المتبختر، المغرور، في سورة الإسراء يقول: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء: الآية37]، أنت إنسان صغير، كائن بسيط، عندما تقارن نفسك عند جبل، ما هو حجمك؟ كيف أنت؟ فاعرف قدرك، عجزك، ضعفك…إلخ. البعض من الناس- مثلًا- في حركة السير، في حركة السير، لا يلتزم بقواعد السير التي يعرفها، لا يقف في الأماكن التي عليه أن يقف فيها، ويقف في الأماكن التي لا ينبغي أن يقف فيها، يتجاوز الإشارة، يتجاوز قواعد السير، التي من المتعارف عليها في المرور، لتنظيم إجراءات السير في المدن والأماكن المزدحمة؛ لأنه يرى نفسه فوق أن يلتزم مع الآخرين بذلك، هذه حالة من حالات التكبر، من حالات المرح في حركته، {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}؛ لأنه يرى نفسه مختلف عن الآخرين، ليس عليه التزام بما على الآخرين أن يلتزموا به، مع ما يسببه ذلك من إشكالات في واقع الناس، قد تُسبب لحوادث، قد يكون لها ضحايا، قد ينتج عن ذلك تأثيرات سيئة، البعض تكون حتى مستوى السرعة بالنسبة له تعبِّر عن هذه الحالة السلبية، فالإنسان ينبغي أن يحذر من كل مظاهر التكبر: في سلوكياته، في أعماله، في تصرفاته، في طريقته في التعامل مع الناس، أن يحذر من كل مظاهر التكبر، هي حالة خطيرة جدًّا.
من عواقب التكبر وآثاره السيئة: الخِذلان وسَلْبُ التوفيق، الإنسان إذا أصبح متكبرًا تجاه الحق، يأنف من قبول الحق، في أي قضية، في أي موضوع، أو يأنف في تقبُّل الحق، وإعطاء الحق على نفسه، أو يأنف من السير في طريق الحق؛ لكي لا يتَّبع أهل الحق، لأنه يرى نفسه أعلى شأنًا من ذلك، هذه الحالة خطيرةٌ جدًّا، تؤدي إلى أن يُخذَل الإنسان والعياذ بالله، ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}[الأعراف: الآية146]، فهم يعاندون، يدفعهم إلى ذلك التكبر والعياذ بالله، حالة رهيبة جدًّا.
فالحالة التي يكون الإنسان فيها يعيش حالة الكبر، يكون ذلك عائقًا حقيقيًا بينه وبين الاهتداء بهدى الله، وبين السير في طريق الحق، حتى لو كانت بنسبة معينة، مستويات ونسبة الكبر خطيرة على الإنسان، خطيرةٌ جدًّا، حتى مثقال حبة خردل من الكبر، قد تؤثر عليك تجاه موقف معين، تجاه قضية معينة، تجاه مقام معين، تجاه التزام إيماني معين، قد تؤثر على الإنسان، ولهذا ورد في الحديث عن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: أَنَّهُ ((لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن فِي قَلبِهِ مِثقَالُ حَبَّةِ خَردَلٍ مِن كِبر))؛ لأن تلك النسبة ستؤثر عليك، في مقام معين، أو موقف معين، أو قضية معينة، الكبر حالة خطيرة جدًّا على الإنسان، هذا معروفٌ في واقع الحياة، البعض من الناس ينحرف في مرحلة معينة عن طريق الحق، نتيجة الكبر، نتيجة الكبر، عرض له الكبر، أصبح يرى نفسه أعلى شأنًا في أن يقبل الحق في موضوع معين، أو قضية معينة، ثم يسبب ذلك إلى الانحراف والعياذ بالله.
ولذلك يقول الله في القرآن الكريم فيما يتعلق بالجانب الإيماني، الإيمان بآيات الله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}[السجدة: الآية15]، كل هذه الحالات الثلاث: ((خَرُّوا سُجَّدًا، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ))، كلها تجعل الإنسان بعيدًا عن حالة الكبر، عندما يكون الإنسان خاضعًا لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بشكلٍ تام، مسلِّمًا لأمر الله وتوجيهات الله في كل شيء، مُوَطِّنًا نفسه على الطاعة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ليس عنده استثناءات، وشروط، واعتبارات معينة، هو يُعبِّد نفسه لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بشكلٍ تام، ويتقبل من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أوامره وتوجيهاته، بدون قيود، بدون أنفة، بدون أن يستكبر تجاه أي شيء، فالخضوع التام لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يُبعِدُ الإنسان عن حالة الكبر، التسبيح لله، والتحميد لله، والتقديس لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، له أهميته الكبيرة في إبعادك عن حالة التكبر؛ لأن المتكبر عَظُمَت عنده نفسه، يُسبِّح بحمد نفسه، هو دائمًا يُسبِّح بحمد نفسه، ويتعاظم نفسَه، وإذا حقق نجاحًا معينًا، أو أعطاه الله شيئًا معينًا، عَظُمَت عنده نفسُه أكثر، بدلًا من أن يَعظُمَ الله في نفسه، تعظم نفسه عند نفسه، سواءً فيما أعطاه الله على المستوى المعنوي في نفسه، أو المادي، أو المكانة، أو الموقع، أو فيما تحقق له من نجاحات، أو فيما أنجزه من أعمال، أو مهام، أو غير ذلك، تعظُم عنده نفسُه؛ أمَّا الإنسان المؤمن، فهو المسبِّح بحمد ربه، بحمد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذي يعظم الله عنده، وفي نفسه، وكلما مَنَّ الله عليه بنعمة، أو توفيق، أو حقق الله على يديه أي إنجاز، أو أعطاه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فهو يُسبِّح بحمد ربه، يعظم الله في نفسه أكثر وأكثر، وليست نفسه هي التي تكبر عند نفسه وفي باله.
{وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، هم بعيدون تمامًا عن التكبر، لا يستكبرون أبدًا تجاه أي شيءٍ من الحق، ولا تجاه أي التزامٍ إيماني، في أي عمل، في أي موقف، فيما عليهم أن يعملوه، ليس هناك أعمال معينة يأنف من أن يعملها، هي رضا لله، وأمره الله بها، هي ضمن التزاماته الإيمانية، لكنه يرى نفسه أعلى من أن يقبل بذلك، ويرى نفسه أنه لو قَبِلَ ذلك الحق، أو عمل ذلك العمل، فإنه يهبط بمستوى نفسه، عن مكانته التي يفترضها لنفسه، {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}؛ فلذلك يتقبلون الحق، يتجهون في طريق الحق، بدون أي تكبر ولا أنفة، لا من عمل معين، لا من شخص معين، ولا من مقامٍ معين، ولا موقفٍ معين، عندهم تسليمٌ تامٌ لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا هو حال أولياء الله “جَلَّ شَأنُهُ”.
الله يقول حتى عن ملائكته وعن أنبيائه ورسله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}[النساء: من الآية172]، ملائكة الله المقربون، هم يُعبِّدون أنفسهم بشكلٍ تامٍ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}[النساء: من الآية172]، الحشر إلى الله، ثم الحساب، ثم الجزاء.
فحالة التكبر هي حالةٌ خطيرةٌ جدًّا على الإنسان، تجاه الحق، تجاه الناس، في النظرة إليهم، في التعامل معهم، وليس هناك أي شيءٍ يبرر لك أن تتكبر على الناس، أو أن تحتقرهم وتزدريهم، وتتعامل معهم بناءً على ذلك، أو أن تأنف في قبول أي شيءٍ من الحق، أو أي شيءٍ من آيات الله تُذَكَّر به، ليس هناك ما يبرر لك ذلك.
الموقف من أعداء الله- فيما هم عليه- من المجرمين الظالمين السيئين، ليس من التكبر المُحرم، هو موقف حق، فيما هم عليه، الحُكمُ عليهم، والموقف منهم: مما عليه من ظلم، من سوء، من طغيان، من إجرام، من صد عن سبيل الله، من جرائم، الموقف منهم هو موقف حق، ليس موقف تكبر، ولذلك هو خارج عن هذا السياق.
الترفُّع عن مجالسة السفهاء السيئين، أصحاب اللغو، والكلام السيء، والأعمال السيئة، والرذائل، والمفاسد في السلوك والتعامل، أيضًا هو من قوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان: من الآية72]، لا ينزل إلى مستوى السفهاء، في كلامهم السيء، في سلوكياتهم السيئة والمسيئة، هذا موضوع آخر أيضًا، ليس من قبيل التكبر.
التكبر عادةً ما يكون فرعًا عن حالة الغرور والعجب، عندما يغتر الإنسان بنفسه، فيما وهبه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” إياه، أو فيما تصوّر أنه فيه، وليس بمستوى ما تصور، أو ظن، أو توقَّع، فسواءً كان في نفسه، أو فيما مكَّنه الله فيه من إمكانات معنوية، أو مادية، أو موقع، أو جاه، أو سلطة، أو ما تحقق على يديه من مهام معينة، أو أعمال معينة، فأصبح مُعجَبًا بنفسه، يرى أن ذلك يعود إليه هو، ومغرورًا، مغرورًا بنفسه، يتصور أنه أصبح شيئًا مهمًا وكبيرًا وهذا يعود إليه، بدلاً من أن يَعظُم الله في نفسه، فهذه الحالة حالة خطيرة، حالة رهيبة، ولهذا عندما قال الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[لقمان: من الآية18]، مختال: مغرور بنفسه، معجب بنفسه، هو ممقوتٌ عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لأنه لم يرَ النعمة لله، نظر إلى نفسه هو، ولم يرَ النعمة لله، فيتوجه إلى الله بالحمد والشكر، بل اغتر بنفسه، وكأنه هو منشأ ما تحقق له، وأساس ما تحقق لنفسه، إن كان تحقق شيء، وإلا فقد يكون ما تصوره عن نفسه وهمًا وخيالًا، أو شيئًا ليس بمستوى ما تصوره.
قال أيضًا في القرآن الكريم: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد: من الآية23]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء: من الآية36]، في ثلاث موارد في القرآن الكريم، يؤكد على هذا، (فَخُور): كثير الافتخار بنفسه، دائمًا يتحدث عن نفسه: [أنا وأنا، وفعلت كذا، وعملت كذا]، يُعظِّم نفسه، يمجِّد نفسه، يتحدث عن نفسه، يضخِّم نفسه.
الحالة الصحيحة بالنسبة للإنسان المؤمن: أنه عندما يمنُّ الله عليه بشيءٍ من التوفيق، أو النعم المعنوية، أو المادية:
- هو يرى الفضل لله، المِنَّة لله، الحمد والثناء لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويعظُم الله في نفسه، ويتجه إلى الله بالشكر.
- ويدرك أن ما أعطاه الله يترتب عليه مسؤوليات والتزامات في الواقع.
- ثم مع ذلك، هو ذلك الذي يوطِّن نفسه على أن يقبل الحق، وأن يعطي الحق، وأن يكون منصفًا، وألَّا يتكبر على أحد، ألَّا يزدري، أو يحتقر أحدًا من الناس، لا في نفسه (شعوره تجاه الآخرين)، ولا في طريقته في التعامل معهم.
- ويتجنب السلوكيات والتصرفات والأعمال المعبرة عن حالة التكبر: حالة المرح، البطر، الغرور، الخارجة عن حد الوقار والتواضع، يكون حذرًا من ذلك، حتى في تعامله وفي سلوكه.
- ثم هو ذلك الذي يعتبر نفسه مهما عمل، ومهما بلغ، ومهما تحقق على يديه، لا يزال مقصرًا وقاصرًا وناقصًا، ولا يزال عنده نقص، ولا يزال عنده تقصير.
هذا هو الشعور الإيماني، وهي الحالة الواقعية، الصحيحة للإنسان، في الحديث النبوي: ((كُلُّ بَنِي آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ))، كلهم عندهم نقص، مهما بلغوا، مهما عملوا، كل إنسان مهما بلغ، مهما عمل، يبقى عنده نقص، يبقى عنده تقصير، لن يصل إلى مرحلة أصبح ينظر إلى نفسه أنه لم يعد عنده تقصير، وأصبح مغرورًا بنفسه، متكبرًا.
فحالة التكبر خطيرةٌ جدًّا، ومفاسدها رهيبةٌ جدًّا، والإنسان المؤمن مهما عمل، هو يرى عظيم حق الله عليه كبيرًا جدًّا، وما عمله لا يساوي شيئًا في مقابل حق الله العظيم عليه، إضافة إلى أنه لا يزال لديه نقص وتقصير.
وقدَّم الله لنا في القرآن الكريم الدرس العظيم عن أنبيائه وأوليائه، في مشاعرهم بالتقصير، مهما عملوا ومهما أنجزوا، فالله يقول لنبيه وسيد رسله محمد “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر: 1-3]، في ذروة الإنجاز، الإنجاز الكبير، الإنجاز العظيم، الذي لا يماثله إنجاز، إنجاز الهداية للناس إلى دين الله، إخراجهم من الظلمات إلى النور، إنقاذهم وهم على شفا حفرة من النار، الانتقال بهم على ما كانوا عليه: من سوء، وشرك، وكفر، وباطل، ومداني، الأخلاق، إلى شرف الإسلام، إلى نعمة أخلاقه، وعلوِّ وسموِّ الإنسانية الحقيقية، التي يرتقي بالإنسان إليها، إلى آخر ما تقول عنه وتعبِّر عنه عن مستوى ذلك الإنجاز، والنصر العظيم، واقتلاع جذور الشرك والكفر، والإطاحة بالطغيان، إنجازات كبرى جدًّا، إنجازات في غاية الأهمية.
فالمقام تجاه ذلك الإنجاز الكبير ما هو؟ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}، لا تستغرق في ذهنيتك بالتسبيح بحمد نفسك، بالثناء على نفسك، [أنا صاحب الإنجاز، أنا فعلت، أنا عملت، أنا أنا أنا…إلخ.]، اعرف الفضل لصاحبه، لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، المنَّة له.
{وَاسْتَغْفِرْهُ}؛ لأنك لا زلت مقصرًا، ولا زال للتقصير من جانبك تأثيرات في مستوى الإنجاز، أو في تأخير الإنجاز، أو في غير ذلك.
هذا هو رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ” الذي بلغ إلى ذروة الكمال البشري، وحقق أهم الإنجازات الحقيقية في التاريخ بكله، في التاريخ البشري بكله، فما هو حالك أنت؟! قد لا يكون لدى الإنسان شيء، قد يكون فقط وَهْم، استعظمَ نفسه بناءً على وَهْم، وهو في غاية النقص والتقصير، الإنسان عليه أن يتواضع، أن يتذكر في خلقه وتكوينه أنه من نطفة، أن يتذكر في مسيرة حياته ما هو عليه من العجز والضعف، في كل أحواله، وأن يدرك أيضًا ما هو عليه على مستوى المقام الأخلاقي والكمال من النقص والتقصير، وكذلك في مجال العمل، ما هو فيه من النقص والتقصير، وأن يتواضع في تعامله مع الناس، وأن يكون عنده توطينٌ لنفسه لتقبُّل الحق دون أنفةٍ من أي أحد، هذه مسألة في غاية الأهمية.
أمَّا عاقبة التكبر والمتكبرين:
- في الدنيا هي الذل والهوان، الإنسان المتكبر لابدَّ أن يُعاقب بالذل، لابد أن يخزيه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في عاجل الدنيا هناك عقوبات لإذلالهم، بأن يعيشوا حالة الذل والهوان والخزي.
- أمَّا في الآخرة فجهنم، {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[الزمر: من الآية72].
لو لم يكن للإنسان في مسألة التكبر إلَّا أخذ العبرة مما حصل لإبليس، وأنت إنسان، لا تفعل كما فعل إبليس، لا تتجه في الاتجاه الذي اتجه فيه إبليس، لا ترتكب ذنب إبليس، لا تفعل كمثله، أبعِد نفسك، عن التكبر، أبعِد نفسك عن الغرور والعجب، الذي يوصلك إلى التكبر، كن إنسانًا واقعيًا، تعرف واقع نفسك، عجزك، تعرف عجزك، تعرف ضعفك، تعرف نقصك، تعرف جوانب التقصير عليك، أو من جانبك.
لو لم يكن من مفاسد التكبر إلَّا أنه عائقٌ بين الإنسان وبين الارتقاء في درجات الإيمان والكمال، لكان كافيًا، فما بالك وفيه الفظائع الكبيرة جدًّا، من المفاسد الرهيبة، الموبقة، المهلكة والعياذ بالله، الكبر داءٌ خطيرٌ جدًّا، وكل ممارسات الإنسان المعبرة عن التكبر هي خطيرةٌ جدًّا، وهي مما يحبط أعماله الصالحة والعياذ بالله.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يَتَـقَـبَّل مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَامَ، وَالقِيَامَ، وَصَالِحَ الأَعْمَالِ، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛