الدرس الخامس عشر للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن عليهما السلام 1444هـ
| محاضرات السيد القائد | 22 ذو الحجة 1444هـ الثقافة القرآنية:
الدرس الخامس عشر للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي من وصية الإمام علي لابنه الإمام الحسن عليهما السلام 22-12-1444هـ 10-07-2023م
الإثنين 22 ذو الحجة 1444هـ – 10 يوليو 2023م
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
وصلنا بالأمس في دروس وصية أمير المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ” لابنه الحسن “عَلَيهِ السَّلَامُ”، إلى قوله: ((وَالْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ))، هناك في واقع الإنسان أسرار، ما لا يريد أن يظهر للآخرين، مما قد يتعلق به شخصيًا، أو مما قد يتعداه في واقعه إلى غيره، أو مما يتعلق بمسؤوليات عملية معينة، أو قضايا معينة، وعادةً ما يكون البعض من الناس هو أول من يخرج السر إلى غيره، ممن ليس معنيًا بذلك الأمر؛ لا علاقة له به، كقضية معينة، أو عمل معين، أو موضوع معين، فيكون ذلك مشكلةً عليه، عندما أصبح ذلك السر عند من ليس معنيًا بذلك الموضوع، أو ذلك العمل، وليس هناك في واقع ذلك الأمر، ما يتطلب اطلاعهُ على ذلك، ثم إذا خرج السر من ذلك الشخص الآخر الذي ائتمنته، قد يمثل ذلك مشكلةً على قضيةً معينة، أو موضوعٍ معين، أو لذلك سلبية معينة، أو آثار سيئة معينة.
فالإنسان يتعود أن يكون كتومًا للسر، بمعنى أن لا يُطلِع من لا يتوجب إطلاعه بشكلٍ صحيح على ذلك الموضوع الذي لا علاقة له به أصلًا. في الأمور الشخصية: المسألة واضحة، وفي الأمور العملية، والقضايا المهمة، والمسؤوليات العامة، التي فيها أسرار معينة، بمعنى معلومات معينة؛ إذا اطلع عليها الآخرون كان لذلك آثار سيئة، أو نتائج سيئة، أو تسربت إلى الأعداء، فيكون لذلك نتائج خطيرة في واقع الناس. فإفشاء الأسرار المتعلقة بالأمور العملية، أو القضايا المهمة، أو الأمور التي اؤتمن الإنسان عليها: هو من الخيانة، إفشاء السر في ذلك هو من الخيانة، وخطورة تلك الخيانة، بقدر ما يترتب عليها من نتائج وآثار.
البعض من الناس مثلًا قد يسرب للعدو، أو يُطلع العدو على معلومات لا ينبغي أن يطَّلع عليها العدو، إطِّلاعه عليها يفيده كعدو، لأنْ يُلحق بالأمة ظلمًا وضررًا بالغًا، أو أن يُفشل أعمالًا مهمة من التي لها علاقة بمسؤوليات الأمة، وواجبات الأمة، أو غير ذلك.
مشكلة البعض: أنه لا يتحمل كتمان السر، يعني حتى سر نفسه؛ يضيق صدره حتى بسر نفسه، ثم يُطلِع الآخرين ممن لا علاقة لهم بذلك، ولا ينبغي إطلاعهم على ذلك، ليس هناك ما يستوجب ذلك في واقع الأمر، ثم يكون قلقًا، يطلب منهم ألا يفشوا ذلك السر، ألا يتحدثوا به، وقلقًا منهم في حال لم يلتزموا بطلبه، وهو الذي ولَّدَ لنفسه وأنتج لنفسه ذلك القلق، كان بإمكانه أن يكون هو الأحفظ لسره؛ لأنه لن يكون غيره أحرص منه على سر نفسه، ولكنه لما لم يحفظ سره هو، كيف يتوقع من الآخرين أو يؤمِّل فيهم أن يكونوا أحفظ منه لسره، فهذا درس مهم في أن يتعلم الإنسان كتمان السر، فيما لا ينبغي إطلاع الآخرين عليه، إطلاعهم عليه له سلبيات، وآثار سيئة معينة.
أما في الأمور العملية، والقضايا المهمة، وما يترتبُ على إفشاء السر فيه، أو إطلاع من لا ينبغي إطلاعه عليه، آثار سيئة، أو أضرار خطيرة، أو نتائج لخدمة العدو، أو تأثيرات مضرة بالأعمال نفسها، أو بالقضايا نفسها، فالمسؤولية في ذلك كبيرة، والمسألة كما قلنا هي خيانة، وهي تستوجب العقوبة من اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ثم دِلالة واضحة على أن الإنسان غير مؤتمن، لا ينبغي ائتمانه، ولا الوثوق به، ليس محل ثقة.
ومن المهم للناس أن يتعلموا خاصة في هذا العصر، والأمة في مواجهة مع أعدائها، أن يتعلموا كيف يكونون صائنين لألسنتهم عن الكلام بما لا ينبغي الكلام به مما يخدم العدو، أو مما يؤثر على الأعمال المهمة، أو الكلام فيما لا ينبغي الكلام عنه، باعتبار أنه لا صلة لمن تتحدث معه بذلك الموضوع أصلًا لا علاقة له به، لا فائدة من اطلاعه عليه؛ لأنه ليس معنيًا بذلك.
والمشكلة في واقع الناس عندما يكثرون الكلام عن كل المواضيع، عن كل التفاصيل، وبالذات في حالة التذمر، أو البعض كعادة لديهم، في مجالسهم، في مقايلهم، يتحدثون ويُسهِبون في الحديث، ويحرص البعض على أن يتميز في حديثه أنه يعرف عن مواضيع وعن أمور أكثر من الآخرين، فيتحدثون بما لا ضرورة في الحديث عنه، من مواضيع، أو معلومات، أو قضايا، إطِّلاع الأعداء عليها يخدمهم في مؤامراتهم على الأمة، في استهدافهم للشعوب، إلى درجة أنه كان من ضمن النشاط الاستخباراتي المعادي الذي يستهدف شعبنا اليمني: هو أن بعض العناصر الاستخباراتية كان يكفيها أن تحضر في بعض مجالس القات، في بعض مقايل القات، وأن تسعى لاستدراج الآخرين في الحديث عن مواضيع معينة، عن قضايا معينة، عن معلومات معينة، فيبدأ البعض يندفع ليقدم تفاصيل أكثر؛ لأنه يريد أن يظهر بأنه يعرف أكثرهم أكثر من الآخرين، وبالتالي له أهمية، فيقدم ما يخدم العناصر الاستخباراتية، يقدم لها معلومات معينة؛ هي تسعى للحصول عليها وهي تخدم الأعداء، بعد ذلك تعدها في تقارير وتقدمها لمصلحة الأعداء.
لا ينبغي أن يكون الإنسان أيضًا مغفَّلًا، يعني قد يكون إفشاؤك للسر، أو حديثك عن معلومات تؤثر على عمل معين، أو تضر المجتمع، أو تؤثر في قضية معينة تأثيرًا سيئًا، قد يكون غير متعمَّد، لم تكن تتعمد إفشاءه كسر، بل لم تكن تتوقع أن العدو سيطَّلع عليه، ولكن لأنك تقول ما لا حاجة إلى أن تقوله وفي غير المقام الذي يتطلب ذلك؛ لست في واقع عملي يتطلب أن تقول ذلك الكلام، إنما هكذا في جلسة قات، أو جلسة عادية، أو غير ذلك.
البعض حتى في مواقع التواصل الاجتماعي، يتعود أن يكثر من الحديث أن يقدِّم الكثير من التفاصيل، التي لا حاجة إليها، فقد يتورط في إفشاء السر، وإفشاؤه للسر يكون ذنبًا، عندما تكون معلومة تخدم بها العدو، ويوظفها العدو، ويستغلها فيما يضر بشعبك، أو يضر بأمتك، أو يضر بمجتمعك، لصالح أعداء الأمة، هذه قضية خطيرة جدًا.
مما يدلل على أهمية هذه المسألة ما ورد في القرآن الكريم في سورة التحريم، في قول اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ}[التحريم : 3]، سرَّبتْ ذلك الحديث؛ وهو كان سِرًّا إليها، لم يكن المطلوب أن تتحدث به مع الآخرين، {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}[التحريم : من الآية 3-4]، فنجد هنا الأمر بالتوبة، الأمر بالتوبة، أو أن ما حصل يستوجب التوبة، والإنابة إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
ولذلك على الإنسان أن يستشعر مسؤوليته فيما يتحدث به، سواء عن واقعه الشخصي، أو عن واقع الناس، أو عن واقع المجتمع، أو عن مجالات العمل، أو ما يتعلق بالمسؤولية، هناك في جوانب كثيرة من المسؤوليات: معلومات معينة، مواضيع معينة، قضايا عملية معينة، تفاصل عملية معينة، لها نطاقها الذي ينبغي أن تكون المعرفة بها في حدودها؛ في حدود ذلك النطاق، ثم لا فائدة أصلًا من أن تتجاوز بها نطاقها، وأن يكون الإنسان مِهذارًا كثير الكلام، أو يتعود على أن يكشف كل شيء لمن هبّ ودَبّ، هذا يفتح أبوابًا من المساوئ، من الشر، من المشاكل، في واقع الناس، حتى في واقع الإنسان الشخصي.
البعض من الناس كشفه عن سرٍّ يخصه يفتح له مشكلة، وقد يكون مبعث قلقه من إفشاء الآخرين الذين استودعهم سره، بعد أن ضاق به صدره، ثم يتوقع منهم أن يكونوا أحرص منه، على حفظ سره، قد يكون قلقه من إفشائهم لسره لما يترتب على ذلك أصلًا من مشاكل معينة، أو آثار سلبية معينة.
فعلى الإنسان أولًا أن يكون كتومًا للسر، على الإنسان أن يكون حكيمًا، ومسؤولًا، وأمينًا فيما يؤتمن عليه من معلومات في مجال عمل معينة، أو مسؤولية معينة، أو قضية معينة، ويؤديها، ولا يكون مهذارًا، غير موثوق، غير مؤتمن، ليس بمستوى الثقة ولا الأمانة التي اؤتمن عليها.
هذه مسألة مهمة في مسألة الأسرار، وبالذات عندما تكون المسألة: أسرار عملية مهمة. لو تَسرب أحيانًا البعض من الناس يقدم للعدو معلومات يترتب عليها إزهاق الأرواح، وسفك الدماء، والإضرار بالناس في حياتهم، في ممتلكاتهم، أو كذلك إفشال أعمال مهمة لخدمة الأمة، ولخدمة الدين، أو غير ذلك مما يستغله العدو لإثارة فتن، أو إثارة مشاكل، أو أي شيء. فالإنسان بحاجةٍ إلى أن يتحلى بالمسؤولية تجاه هذا الموضوع.
نجد في قصص الأنبياء في قصة نبي اللّٰه نوح “عَلَيهِ السَّلَام”، هلكت زوجته؛ وهي زوجته من أقرب المقربين إليه؛ لأنها كانت تفشي أسرارًا عملية، كانت تخبر قومها بمن يأتي إليه مؤمنًا، تُسرِّب لهم معلومات. زوجة نبي اللّٰه لوط “عَلَيهِ السَّلَامُ”، هلكت، وكانت من الغابرين والهالكين الذين أهلكهم اللّٰه بعذابه، ولم ينفعها قربها من ذلك النبي، لماذا؟ كانت تسرب لهم أخبارًا عن ضيوفه. فما بالك بأي إنسان، يعني في أي مجال، قد يتسرب من خلاله معلومات تخدم العدو، أو يتسبب عليها إلحاق ضرر بالأمة، أو بأعمال مهمة، أو يترتب عليها إلحاق ضرر بالمجتمع في أي مستوى، ولو بإنسان واحد ظلمًا وعدوانًا، أو تؤثر على نجاح أعمال مهمة.
فالإنسان عليه أن يتحلى بالمسؤولية في هذا الأمر، وأن يتعود على كتمان ما ينبغي كتمانه، على الأمانة والتزامها، فيما اؤتمن عليه من معلومات، من أعمال، وألا يتعود على كثرة الهَذَر، والحرص على إبراز نفسه أنه شخص مهم، يعرف المعلومات الكثيرة، ثم يكون كثير الكلام في كل مكان وأين ما كان، ويتحول البعض إلى مغفَّل، من هو كثير الكلام، ويُستدرج بكل بساطة في مقايل القات، أو في المجالس العامة، يُستدرج ليقول أي شيء، يتمكن عنصر استخبارات أن يستغفله، وأن يحصل منه على ما يريد، وهو يتفاعل أكثر وأكثر، مع استغفاله له، واستدراجه له، وإصغائه له، وسؤاله له، فيُظهر نفسه أنه عبقري، بينما هو أصبح في واقع الحال إنسانًا مغفلًا، بكل ما تعنيه الكلمة.
((وَالْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ. وَرُبَّ سَاعٍ فِيَما يَضُرُّهُ))، الإنسان عندما يسعى عمليًا لتحقيق هدف معين، أو من أجل غرض معين، سواءً على مستوى أموره الشخصية، أو في إطار مسؤولية عملية، أو في إطار قضية معينة، عليه أن يكون سعيه مبنيًا على فهم صحيح، ومعرفة صحيحة، على مستوى الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه، والأمر الذي يريد أن ينجزه، هل هو الصحيح، بمعيار الحق هل هو حق، بمعيار الصحة هل هو صحيح، بالنظر إلى الطريقة والأسلوب هل هي صحيحة، هذا أمر مهم.
لا يكفي أن يتجه الإنسان في سعيه العملي، بأي طريقة، بأي شكل، لتحقيق أي موضوع، أو أي أمر، دون النظر فيه هو، ودون النظر في الوسيلة العملية، في الطريقة العملية التي يعتمد عليها، وإلا فقد يسعى الإنسان بجِدّ، ويبذل جهدًا عمليًا للوصول إلى شيء، أو لإنجاز شيء، أو لتحقيق شيء، هو يضرهُ، ليس في مصلحته، إما لأنه من الباطل، أو لأنه التبس عليه الأمر، وليس مصلحة له كغرض من شؤونه الشخصية، أو من أموره في الحياة.
إذا لم يدرس الأمور ببصيرة، بحكمة، بفهم صحيح، إذا لم ينظر للأمور في مقدماتها الصحيحة، وفي وسائلها الصحيحة، وفي طريقتها السليمة والحكيمة، فقد يتصرف وقد يسعى لتحقيق ما يضره، أو تكون الطريقة نفسها طريقة تضر بك، وتفشلك، أو تحمِّلك أعباءً لا ضرورة لها، ولا حاجة لها، ويمكن الوصول إلى تحقيق الهدف بدونها.
فالسعي العملي لا ينبغي أن يكون مجردًا من الفهم الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والبصيرة فيما تسعى لتحقيقه، البصيرة تجاههُ هو، هل هو شيء صحيح، هل هو مفيد لك، إذا كان لغرض شخصي مثلًا، هل هو بالشكل الذي يستحق منك أن تبذل من أجله المجهود العملي، أحيانًا تحفِّز الإنسان حالة الرغبة، والتي ليست مبنية على تدقيق، أو معرفة صحيحة، فينطلق باندفاعةٍ كبيرة، إلى موضوع معين هو ضار له، أو مفسد له، أو خطر عليه، أو شر له، أو كما قلنا في الطريقة والأسلوب كذلك، ولو كان الموضوع في أصله مناسبًا.
فميزة السعي العملي والجد العملي لوحدها لا تكفي، أن يكون الإنسان عمليًا فقط كيفما كان؛ ولو بطريقة عشوائية، ولو لتحقيق أشياء لا يتأكد هل هي مناسبة، صحيحة، مفيدة، بحسب ما يتعلق بها؛ لأن الإنسان قد يسعى لأمور شخصية، مباحة له مثلًا، لكن قد يغلط فيها، لا يصل إلى ما يفيده، ما يؤمله؛ لأنه لم يبنِ الأمور على معرفة صحيحة، ومقدمات صحيحة. أو قد تكون في أمور أكبر وأشمل من أموره الشخصية: قضايا مهمة، أو مسؤولية عملية، تستدعي كذلك أن يتحرك الإنسان عمليًا ببصيرة، ووعي، وفهم، ومقدمات صحيحة، وطريقة عملية سليمة، بالممكن.
((وَرُبَّ سَاعٍ فِيَما يَضُرُّهُ. مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ ))، من أكثر من الكلام: أهجر، يحصل في كلامه الكثير من الأخطاء، والهذيان، والتجاوزات، وما لا يفيد، في أقل الأحوال: ما لا يفيد، ما لا فائدة منه، مضيعة للوقت، وضجيج يزعج الناس به. ولذلك ينبغي أن يكون الإنسان حكيمًا في منطقه، في كلامه، يتكلم بقدر الحاجة، لا يُكثر، لا يهذي بما لا فائدة منه، ولا يتعود الإسهاب، والإكثار في الكلام، وهذه عادة البعض، البعض إن كان في مجلس سيطر عليه، لم يدع للآخرين فرصة أن يتحدثوا، من كثرة ما يتكلم، يصبح مملولًا عند الناس، من كثرة كلامه، أينما وجدوه، أينما تحدثوا معه، أصبح يتحدث بكثرة وكثرة وكثرة، قد يكون الموضوع موضوعًا لا حاجة فيه إلى ذلك الكلام الكثير، فيدخل في ذلك إشكالات كثيرة منها هذه: أن الإنسان قد يتجاوز في كلامه، قد يبالغ، قد يتكلم بما لا فائدة منه، قد يتجاوز الحق، قد يحصل الكثير من الأخطاء في كلماته وكلامه، وأقل الأحوال هو أن يتكلم بما لا فائدة منه، وأن يضيع أوقات الآخرين، وأن يثقل عليهم، وبالذات عندما يكون الناس- في إطار مسؤوليات وأعمال، أو في ظروف حياتهم- يحتاجون إلى الوقت.
البعض من الناس لا يعرف قيمة الوقت، ولا يقدِّر قيمة الوقت، وبالتالي قد يستهلك وقت طويلًا، البعض مثلًا ثلاث ساعات، في موضوع يكفي أن يتحدث عنه بربع ساعة، أو قضية يكفي أن يلخص ما يتعلق بها في ربع ساعة، لكنه كثير الكلام، وقد تصل معه إلى حالة إرهاق وأنت تصغي له، هذا يحصل في واقعنا العملي، يحصل في واقعنا العملي مع ازدحام الأعمال، وازدحام المسؤوليات، كم نعاني على أوقاتنا من هذا النوع، الذي يستغرق عليك وقتًا طويلًا جدًا، وقد يكون كل ما طرحه لك يتلخص في نقاط محددة، وقضايا محددة، يستطيع أن يوجزها لك في وقت محدود، وجرَّبنا؛ هناك الكثير من الناس قديرون في تقديم مواضعهم وقضاياهم في وقت مختصر، وقد قدم كل المطلوب، يعني أوفى الموضوع حقه من دون إسهاب، من دون تضييع للوقت، من دون هذيان وهذر، وحصل المقصود، وتجد انطباعك الإيجابي تجاهه وتجاه طريقته؛ لأنه ساعدك في مسألة الوقت والاستفادة من الوقت.
الناس في مقايلهم، في مجالسهم العامة كذلك. الإنسان بشكل عام؛ كيف يروِّض نفسه، ويؤدب نفسه، ويعلم نفسه على أن يكون حكيمًا في كلامه، يتكلم بقدر الحاجة، لا داعي للإسهاب، والإكثار، والإطالة، والكلام الكثير الكثير، الذي لا فائدة منه. والبعض أيضًا يحشر نفسه في كل المواضيع، حتى المواضيع التي ليست من اختصاصه، ولا خلفية له عنها، لكنه قد تعود على أن يتكلم في أي موضوع بأي كلام كيف ما كان، فيلقي بالكلام على عواهنه كيف ما كان.
فعلى كل حال، الإكثار من الكلام بما لا فائدة منه، ولا حاجة تقتضيه: هو ينافي الحكمة، وهو بعيد عن استشعار المسؤولية فيما يقوله الإنسان، وله سلبيات أقلّ أحوالها: أن الإنسان قد يتكلم بما لا فائدة منه، ويضيع الوقت في ذلك على نفسه وعلى الآخرين، وإلا فقد يحصل ما هو أسوأ، في سقطات اللسان وفلتاته: الكثير من الكلام الذي هو في إطار ما يتحمله الإنسان من وزر، وذنب، ويُحسب عليه، ولهذا ورد في النص النبوي عن رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وعلى آلِهِ”: ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ))، ليحرص الإنسان على أن يستقيم لسانه، يتكلم في نطاق المسؤولية والضوابط الشرعية والأخلاقية، وبمعيار الحكمة أيضًا، ويتعود على أن يكون منضبطًا في منطقه، مسيطرًا على منطقه، مسيطرًا على كلامه، في مختلف الظروف، والأحوال، والمقامات، وإذا زلّ رجع إلى اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وقد يحتاج الإنسان إلى التدرج في ذلك حتى يتعود شيئًا فشيئًا، وهكذا.
((وَمَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ))، من تفكر: درس الأمور ونظر فيها، بناءً على أسس صحيحة، التفكير يجب أن يكون مبنيًا على أسس صحيحة، النظر في الأمور، والدراسة لها، والتفكير فيها، بالاستناد إلى أسس صحيحة، يساعد الإنسان على أن يُبصر، فتبصر، إبصارك هذا ترى أن هذا الموضوع فعلًا موضوع مناسب، أن هذه الطريقة طريقة صحيحة، أن هذا الهدف هو هدفٌ مهمٌ فعلًا، يستحق السعي العملي للوصول إليه، أن هذا الأسلوب هو أسلوب صحيح، أن هذه القضية هي قضية مهمة، أن وراء تلك التصرفات من جانب الأعداء خطة معينة، تحصل على بصيرة بمستوى ما درسته، وتفكرت فيه، ونظرت فيه بالاستناد إلى أسس صحيحة.
فالواقع العملي للناس يجب أن يكون مبنيًا على رؤية، على بصيرة، على فهم، على معرفة، وكما قلنا بالاستناد إلى أسس صحيحة، التفكير ليس مجرد (تطانين)، يعني هواجس ذهنية، ليست مستندة إلى معطيات، إلى أسس، إلى معلومات صحيحة. مجرد الهواجس التي يتخيلها البعض، أو تطرق ذهنه، وتخطر بباله، قد تكون ناتجة عن وهم، أو أمنيات، أو مشاعر نفسية، أو تصورات خاطئة، أو معلومات مغلوطة، وهكذا، ثم يُبنى عليها نتائج خاطئة.
التفكير الصحيح: الذي يُبنى على أسس صحيحة، ومعطيات صحيحة، ومعلومات صحيحة، ثم تتضح الرؤية العملية، ماذا عليَّ أن أعمل في هذا الأمر. وهذا يبدأ من واقعك الشخصي، وهو حاضرٌ أيضًا ومطلوبٌ في الأمور العملية، والمسؤوليات العملية، والاهتمامات العملية للمجتمع والأمة، بمستوى أكبر، بمستوى أكبر، وهو البديل عن التحرك العشوائي، الذي ليس مبنيًا على رؤية مدروسة، على نظرة صحيحة، على فهم للواقع، وفهم للمعطيات، وفهم لما علينا أن نعمل، وما هي أولوياتنا فيما نعمل، ما هو الصحيح فيما نفعل.
فينبغي أن يكون الأساس لتحركنا، لأعمالنا، لمواقف، لما نتحرك فيه عمليًا في مختلف المجالات: هو الرؤية المدروسة، المبنية على فكرة صحيحة، وأن يكون ذلك ببصيرة، مبنيًا على نظر وتفكير صحيح، ورؤية صحيحة، وببصيرة، وإلا يكون تحرك الإنسان عشوائيًا، ويكون سببًا للكثير من الإخفاقات، الكثير من الأخطاء، الكثير من العوائق التي يواجهها الإنسان، إذا لم يدرس الأمور مسبقًا، ولم يدرس المعطيات مسبقًا، ولم ينظر في الواقع مسبقًا، يدخل في إشكالات كثيرة، ويتخبط في أعماله، في تصرفاته، في اهتماماته، في أولوياته.
((قَارِنْ أهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ))، الإنسان في هذه الحياة، في الأعمّ الأغلب، عادةً ما يكون للإنسان علاقات، وأصحاب، وأصدقاء، وأخِلَّاء، أغلب حال الناس هو كذلك، كل إنسان يكون له أصدقاء وأخلاء، ومن تربطه بهم الروابط الأخوية القوية. فالمقارنة لأهل الخير، أن يكونوا هم أخِلَّاؤك، أصدقاؤك، أصحابك، هم الذين تختلط بهم، تجلس معهم، تتحرك معهم، تجالسهم، مسألة مهمة جدًّا؛ لأن الإنسان هو يتأثر بمن يجالس، بمن يخالط، بمن يصاحب، بمن يصادق، يتأثر الإنسان بأخلائه وأصدقائه، مع الحياة الطويلة معهم، مع الجلوس الطويل معهم، مع مُعايشتهم في أمور عملية، وقضايا، واهتمامات، وكلام، يتأثر الإنسان بهم، فإذا كانوا من أهل الخير، كان تأثره إيجابيًا، يتأثر بما فيهم من الخير، ثم هو تلقائيًا سيكون من جملتهم، من جانب ما يتأثر به، ومن جانب ما يشترك فيه، ومن جانب أنه أصبح من جملتهم، وفي زمرتهم، فهذا يكون مساعدًا له على ترسيخ توجهه الخيِّر، أن يكون إنسانًا خيِّرًا وصالحًا، وأن تتعزز عنده جوانب الخير، في نفسه، وفي واقعه العملي، وفي اهتماماته، حتى يتعود على ذلك.
في نصٍ مروي عن أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((الخَيرُ عَادَة))، ممكن أن تتعود على الخير، حتى يصبح عادةً عندك، تفعله بكل راحة، بكل رغبة، بدون أي تكلف، لم تعد في تلك الوضعية التي تحاول أن تقسُر نفسك، وأن ترغم نفسك على فعل الخير مع تعب، أو نفور عن ذلك، أو تهرُّب، أو شعور بعدم الرغبة، أنت تصبح راغبًا، مندفعًا، معتادًا، آلفًا لفعل الخير، متعودًا على ذلك.
((وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ))، لا ترتبط بهم، لا ترتبط بأهل الشر، في علاقات، في صداقة، في مجالسة، في عِشرة، في ارتباط عملي، انفصل عنهم، وبيانهم فيما هُم عليه، لا تكن معهم فيما هم عليه من شر، ولا ترتبط بهم بعلاقات، وتجالسهم، وتكون معهم، وتكون في زمرتهم؛ عندما ترتبط بهم في علاقات، ومجالسة، وأخذ ورَدّ، وصحبة وصداقة، وخُلَّة، هذا يؤثر عليك، أنت تتأثر بهم تلقائيًا، يؤثِّرون عليك فيما يوسوسون به لك، سيتكلمون بما يحاولون أن يؤثروا به عليك، في تغيير قناعاتك الصحيحة، مفاهيمك الصحيحة، منطلقاتك الصحيحة، سيحاولون أن يؤثروا عليك في أعمالك، في سلوكك، في تصرفاتك، في أخلاقك، سواءً من خلال كلامهم أو بتأثرك بهم، الصديق يؤثر في صديقه، وهكذا حتى تكون للمسألة آثار سلبية عليك، قد تصل بك إلى درجة الانحراف التام إليهم، عن طريق الحق والخير إليهم، فتتحول إلى إنسان يألف الشر مثلهم، ويندفع في الشر معهم، برغبة، بتفاعل، وهذه حالة خطيرة جدًّا على الإنسان.
ويبين اللّٰه في القرآن الكريم في عدة مواضع من القرآن الكريم: خطورة قُرناء السوء، وأخلَّاء الشر والهوى، أولئك الذين ينحرفون بك. في سورة الفرقان يقول اللّٰه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا(27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا }[الفرقان: 27-28]؛ لأن خُلَّة فلان: هي التي صرفته عن سبيل الحق، عن طريق الرسول “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، عن نهج الإسلام الحق، عن التمسك بهدى اللّٰه وتعاليمه وكتابه. قد يصل تأثير بعض الأخلَّاء والأصدقاء عليك إلى هذا المستوى، أن يصرفك عن الاتباع للقرآن والرسول، أن يحيد بك عن طريق الحق، أن يتجه بك اتجاه الشر، ويحصل هذا للكثير من الناس، هو حالة واقعية، وتحدث عنه القرآن الكريم كحالة واقعية، تحصل لبعض الناس، وهم من أشد الناس ندمًا يوم القيامة، مثل ما هو هذا المنطق: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي}، حالة خطيرة جدًّا، {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف: 36]، قد يكون من شياطين الجن، وقد يكون من شياطين الإنس، قد يكون قرينك الإنسي؛ الذي تألفه، تعتبره صديقًا لك، تنسجم مع صداقتك به: يُعتبر من الشياطين، {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}[الزخرف : 36 – 38].
فالقرناء والأخلَّاء من أهل الشر: يمثلون خطورةً كبيرةً عليك، والخطورة منهم في كل مراحل العمر، حتى في مرحلة الطفولة، في مرحلة الشباب مرحلة حساسة ومهمة جدًا، البعض من أهل الشر قد يأخذ بيدك كشاب إلى حيث يغويك، إلى حيث يفسدك، إلى حيث يضرب نفسيتك، وزكاء نفسك، يضرب زكاء نفسك ضربةً قاضية، فالمسألة مهمة جدًّا.
ما يمكن أن يفصلك عن الشر وأن تكون من أهل الشر: مباينة أهل الشر، أن يكون اتجاهك معاكسًا لاتجاههم على المستوى العملي، لا تعمل عملهم، ولا ترتبط بهم في صداقة وخُلَّة، احذرهم، واحذر أعمالهم الشريرة والسيئة.
((وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ. بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ))، الإنسان في حياته معتمِدٌ على الطعام، لا يمكن أن يعيش بدون طعام، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قد أحل لنا الطيبات كطعام، وهيأ لنا أسباب الرزق الحلال، ودلّنا عليها، وأرشدنا إليها، وهيئها لنا في واقع الحياة، حتى تكون متاحة ممكنة، ليست أسباب الرزق الحلال مستحيلة، حتى يقول الإنسان: [لا يمكن أن أسعى لتحصيل قوتي وطعامي إلا بطريقة الحرام]، لا، سبل الحلال، والطريقة الصحيحة المشروعة للكسب الحلال هي متاحة، هي من الممكنات، هي من الشيء الممكن في واقع الحياة، وكلما صلح المجتمع، واتجه اتجاهًا صحيحًا، كلما تهيأت أكثر، وتيسرت أكثر، وتوفرت وتنوعت أكثر. لكن لو انحرف المجتمع، وأصبح مجتمعًا منحرفًا، يتعاون على الإثم والعدوان، ويمارس المحرمات، والأساليب المحرمة: تتعقد المسألة، بسببه هو، وبسبب انحرافه فقط.
الإنسان يعتمد على الطعام في الحفاظ على حياته، وفي نمو جسمه، وأنت تفعل ذلك من أجل نفسك، وتوفر لأسرتك الطعام، ولأطفالك الطعام، فإذا كان ذلك الطعام من الحرام، إما بأنك اعتمدت فيه على الكسب الحرام، على البيع والشراء أو على الحصول على المال لكن بطريقة محرمة، مخالفة للشرع، بيع وشراء فيه رِبا مثلًا، معتمد على الرِّبا، أو معتمدًا على الغِشّ والخيانة، والنصب والاحتيال، أو تبيع وتشتري في المحرمات، كالذي يتَّجِر في المخدرات، أو غيرها من المحرمات، أو الوسيلة للحصول على المال: وسيلة محرمة، كمن يقاتل في صف الباطل، أو يقف في صف الباطل، للحصول على شيءٍ من أموال الدنيا، كمن يرتشي الرُشا، من أجل أن يحصل على المال. كل الوسائل المحرمة التي تعتمد عليها في توفير قوتك وطعامك، أنت بسببها توفر الطعام الحرام، أو المحرمات في نفسها، مثل الميتة، مثل الذين يعتمدون مثلًا على شراء لحوم من بلدان غير إسلامية، مخالفة للإسلام، تأتي اللحوم من عندهم ويقوم البعض بأكلها وتناولها، أو لحم الخنزير، أو أي من المحرمات، المواد المحرمة في نفسها.
ما يتغذى به الإنسان من المحرمات أو من المال الحرام: هو من أسوأ ما يمكن أن يؤثر على الإنسان في نفسه، إذا نبت لحمك ونمى جسمك بالمال الحرام، أو بالأكل الحرام؛ بالمحرمات، فهذا يؤثر تأثيرًا سيئًا جدًّا.
إذا كنت تنمِّي أولادك؛ تقدم لهم طعامهم الذي ينمون به، وتنمو أجسامهم به، من المال الحرام، أو تؤكلهم المحرمات، هذا يؤثر عليهم تأثيرًا سيئًا، يؤثر على الإنسان في نفسه تأثيرًا خطيرًا، يعني من أسوأ ما يُفسد النفوس ويدنسها: عندما يكون ما يتغذى به الإنسان، وينمو به، ويتحرك به، …… الطعام هو يحركك في هذه الحياة، هو طاقتك، أنت تكتسب منه الطاقة التي تتحرك بها، فيكون لذلك الحرام أثره السيئ في نفسك، في تفكيرك، في مشاعرك، في ذهنيتك، في كل واقعك، امتزج الحرام بلحمك ودمك، وأثَّر على نفسك وذهنك، يؤثر تأثيرًا خطيرًا جدًّا، فنتيجته وخيمة. بينما الطعام الحلال، نتيجته إيجابية، لجسمك، لذهنك، لنفسك.
وأيضًا هناك عواقب وخيمة؛ الإنسان الذي يعتمد في طعامه على الحرام، أو يطعم أسرته الحرام، ويعتمد على ذلك، يكون لذلك آثار سيئة في مستقبلهم، فيما يتعلق بتصرفاتهم وأعمالهم. إذا نمى الإنسان على السُّحت والحرام، قد يصل إلى درجة أن يكون إنسانًا شريرًا في هذه الحياة، جريئًا على الجرائم، مرتكبًا للمآثم، يأتي المنكرات الفظيعة، الجرائم البشعة، يتجرأ على المحارم، ينتهك حدود الله، يكون السوء كامنًا في نفسه، قد نمى فيه، ورَسَخ في قلبه، حالة خطيرة جدًّا على الإنسان، بينما إيجابية الحلال إيجابية كبيرة، في نفس الإنسان، في تفكيره، في ذهنه، في واقعه الشخصي بشكلٍ عام. وفي السلامة من آثار المحرمات: آثار إيجابية.
((بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ))؛ لأن الإنسان، البعض من الناس قد يستحلي أنه بالمال الحرام قد وفر طعامًا دسمًا لنفسه أو أسرته، وأغذية مرغوبة ذات جودة ضخمة، لكنه ورط نفسه، العواقب السيئة، الآثار لذلك الطعام سيئة في النفوس والقلوب والمشاعر، وما ينتج عن ذلك في تصرفاتهم، وعواقب ذلك عليهم في الدنيا والآخرة.
((وَظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ))، ولذلك في مسألة الطعام؛ من أمانتك ومسؤوليتك تجاه نفسك وأسرتك: أن تسعى وأن تحرص على أن تطعمهم الحلال، ألا يكون ما وفرته لهم من طعام: من مال حرام، أو بمال حرام، بكسب حرام، أو بغير كسب، رشوة أو غير ذلك، كل وسائل الكسب المحرم، قضية خطيرة جدًّا، أنت تجني عليهم، وتظلمهم بذلك، وتُفسدهم وتُسيء إليهم بذلك، لما لذلك من آثار سيئة.
((وَظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ))، الظلم بكله حرام، من أكبر الكبائر، فالظلم من أكبر الكبائر، والإنسان في أي مستوى كان، بإمكانه أن يظلم؛ في واقعة القريب: في مستوى أسرته، أو محيطه الاجتماعي القريب، أو أقاربه، أو كان صاحب مسؤولية في مستوى معين، بأي مستوى، فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة، والظلم من أكبر الجرائم التي تُخلِّدك في النار، وعيد اللّٰه عليه في القرآن وعيدٌ شديد، اللّٰه لعن الظالمين، اللّٰه توعَّدهم بجهنم، بالخلود في نار جهنم.
والبعض من الناس قد يكون ظلمه للضعفاء، يتوجه بظلمه على الضعفاء، هو جريءٌ عليهم، وقاسٍ عليهم، ومتشجع عليهم، ولذلك قد يظلمون مثلًا يتيمًا، قد يظلم قريبته، من أقاربه، قد يظلم زوجته، قد يظلم أحدًا من أبناء المجتمع ممن أنه لا يحظى بحماية عشائرية، أو قبلية، أو أسرية، أو بأي مستوى معين، فهو يتشجع عليه، والبعض يتشجع بموقعه، بمنصبه، بمسؤوليته، ليُمارس الظلم بحق شخص يستضعفه.
والظلم سواءً كانت جناية على النفس، كأَنْ تظلم إنسانًا بجَرحه، أو ضربه، أو قتله، أو بسجنه، أو بأي ضرر يناله في بدنه، بغير حق، بتجاوز للحق والعدل، أو بالكلام، أو في ممتلكاته، بالكلام في عرضه، في شرفه، في كرامته، فيما يُسيء إليه، فيما فيه افتراء عليه، أو جَرح لمشاعره بغير حق، عدوانًا وظلمًا، أو تجاوزا للعدل، أو كذلك في ممتلكاته. كل أشكال الظلم هي تُدخلك نار جهنم، إن لم تتب منها، وتتخلص منها، توبةً فيها تخلُّص، الظلم خطيرًا جدًّا.
فإذا كنت جريئًا على ظلم الضعيف، فالظلم بكله جريمة، وذلك أشد جُرمًا: ظلم الضعيف، أن تظلم طفلًا، أو أن تظلم يتيمًا، أو أن تظلم امرأةً قد تجد أنها لا تحظى بحماية ممن يدافع عنها، أو شخصًا من أبناء المجتمع أنت تستضعفه، أيًّا كان؛ من تستضعفه وتراه ضعيفًا، وبالتالي كنت جريئًا عليه؛ لأنك مطمئن أنه ليس هناك من يوفر له حماية منك، أو يدفع شرَّك عنه، أو يعاقبك تجاه ما فعلتَ به، فأنت نظرت إليه باستضعاف؛ أنه لا يجد من يحميه، من يدافع عنه، بقي له من؟ بقي له الله.
ذلك الضعيف الذي كنت جريئًا عليه، وحملت في ظلمك له مشاعر التكبر عليه، والاستضعاف له؛ بقي له الله. في الوقت الذي كنتَ تُمارس ظُلمك بحقه، وكنت منبسط النفس، جريئًا، متشجعًا، مغرورًا، متكبرًا، تتصور أنك لن تجد أي مشكلة من أحد، ولا ردة فعل من جانب الآخرين، لصالح ذلك المظلوم، بقي له اللّٰه، تصورت أنت أنه لم يبق هناك من يدافع عنه، أو يشكل حماية له منك، بقي له اللّٰه، {وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا}[النساء: من آية 45]، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو أسرع “جَلَّ شَأنُهُ” في الانتقام للمظلوم الضعيف الذي لا يجد له ناصرًا إلا اللّٰه قبل غيره، قبل غيره من بقية المظلومين.
هناك نصوص عن رسول اللّٰه “صَلَوَاتُ اللّٰه عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، تؤكد هذا المعنى، والوعيد في القرآن الكريم، عندما نقرأ الآيات المباركة في سورة النساء، وفي سورة البقرة، في سورة آل عمران، في عدة سور في القرآن الكريم، من أبرزها الآيات المباركة في أول سورة النساء: عن اليتامى؛ عن ظلمهم، عن أكل أموالهم، عن ظلم الضعيف من الأرحام، كيف المقت من الله، كيف السخط من الله، كيف الغضب من الله، كيف هي العقوبة الإلهية تجاه ذلك، فالمسألة خطيرة جدًّا على الإنسان، وهي مما يأتي فيه العقاب عاجلًا وسريعًا: ظلم الضعيف والانتقام شديدًا.
لأن الإنسان كان يحمل- وهو يمارس ذلك الظلم- مشاعر الغرور، والتجبر، والتكبر، وهو جريء على ذلك المظلوم؛ لأنه تصور أنه ليس هناك من يمثل حماية له، بقي له ربه، بقي له الله. ((أَفْحَشُ الظُّلْمِ)): هو أشنع وأقبح وأفظع حالات الظلم؛ ظلم الضعيف.
((إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقًا، كَانَ الْخُرْقُ رِفْقًا))، الرِّفق: هو أسلوب اللطف واللِّين، إذا كان الأسلوب اللين واللطف، لإنجاز أمرٍ معين، أو لتحقيق هدفٍ معين، أو لمواجهة مشكلة معينة، سيؤدي إلى نتيجة عكسية، سيؤدي إلى تشجيع على الخلل، على الفساد، ويؤدي إلى نتيجة تُمكِّن الآخَر الذي هو سيء أو ظالم من فعل ما هو أسوأ، فلا داعي لهذا الرفق؛ لأنه سيتحول إلى خُرق، إلى فشل، إلى خلل، إلى مشكلة، لا يفيد في معالجة المشكلة.
أحيانًا لا يكون أسلوب اللين واللطف: هو الذي يعالج المشكلة، بل يؤدي إلى ما هو أسوأ، وهذا في أمور كثيرة، مثلًا: التعامل مع الأعداء، طريقة العرب مع العدو الإسرائيلي: هي من هذا الباب (الرفق)، وتحوَّل إلى خُرق، إلى كارثة على الأمة، كلما فعل بهم العدو الإسرائيلي أسوأ الأفعال؛ عاملوه بلين ولطف وقدموا مبادرات السلام، وفعل ما هو أسوأ، وهكذا، حتى تمكَّن إلى مستويات لم يكن ليتمكن معها لو عاملوه من البداية بحزم، لو اتخذوا الوسيلة الصحيحة في التعامل معه، هكذا في واقع الأمة من الداخل، في بعض الحالات لمواجهة مشاكل معينة، أو جرائم، أو مفاسد، يحتاج الموضوع إلى تعامل بوفق ما هدى اللّٰه إليه، من إجراءات حازمة رادعة، بل أحيانًا على المستوى التربوي، والإنسان معلِّم؛ يربي تلاميذه، أو أب، أو قريب، يربِّي من هو في إطار مسؤوليته، قد يكون اللين والرفق مهمًا في حالات معينة، ومفيدًا في حالات معينة، وله نتيجته الإيجابية، وفي حالات أخرى قد يكون سببًا للتمادي في الأعمال السيئة، في الجرأة على الأعمال القبيحة، في التشجيع على مواصلة الخلل، فقد تتطلب بعض الأمور التعامل بشيءٍ من الحزم، ولكل شيءٍ مستواه.
الأمور تتطلب أن يكون المعيار هو معيار الحكمة، وضع الشيء في موضعه، والتعامل مع الأمور بمستواها، وبما يناسبها فعلًا، ليس من واقع الحالة النفسية لديك أنت، ليس بمستوى انفعالك، ليس بمستوى غضبك، ليس بمستوى واقعك النفسي، بل في الواقع نفسه، ما يتطلبه الموضوع في واقعه، بالنظر إلى حالة الشخص وإلى الواقع نفسه، وليس بمستوى مزاجك أنت، [أنا غضبت جدًّا، فأريد أن أتعامل بعنف، بمستوى غضبي، أو بشدة، بمستوى غضبي، لكي أرتاح، لكي أطفئ نيران غضبي، بعد أن أكون فعلت ما يشفي غيظي]، ليس هذا هو المطلوب.
الأمور في مستوى ما تحتاج إليه، أحيانًا مستوى الحزم: هو كلام قاسٍ، تحذير شديد اللهجة، أحيانًا إجراء عملي في مستوى معين، الأمور لها مستوياتها بمعيار الحكمة، والحكمة يؤخذ فيها بعين الاعتبار ما يتناسب مع مستوى الشيء، ما يحقق الهدف المطلوب فيه، بمستواه، ليس بإفراط ولا تفريط.
ولذلك يقول أمير المؤمنين: ((إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقًا ))، كان أسلوب اللين واللطف سيؤدي إلى نتيجة سيئة عكسية، ((كَانَ الْخُرْقُ رِفْقًا))، كان المطلوب هو التعامل بطريقة غير ليِّنة، ولا بطريقة اللطف، بل بالشدة أحيانًا والقسوة، لكن في مستوى الحق، ومستوى الحكمة والعدل، وهذا سيكون له النتيجة التي كنت تريدها من الرفق، يعني أحيانًا بعضٌ من الشدة في بعض الحالات التربوية تساعد على إصلاح ذلك الشخص، على الحفاظ عليه، على استقامته، على أن ينشأ عنصرًا صالحًا مستقيمًا، يكون لها أثر إيجابي جدًّا فيه، أو أحيانًا أنت تمنع بذلك المقدار من الحكمة والشدة التي كانت مطلوبة بمقتضى الحق والحكمة والعدل، تمنع التمادي الذي قد يُشجع البعض من الناس، من السفهاء أو ممن لا يتحلى بالمسؤولية، إلى الجرأة على فعل ما هو سيئ، أو يُخلّ بالواقع، أو بأمن المجتمع، أو غير ذلك، فلذلك يقول أمير المؤمنين: ليس المطلوب أن نتعامل مع كل الأمور، وكل القضايا، وكل المواضيع بلين ورفق ولطف، بعض الأمور تتطلب ذلك، كثير من الأمور يمكن أن نتعامل معها باللين واللطف، وتتحقق النتيجة المرجوة، أما البعض من الأمور فلا، والأمر يعود إلى النتيجة، إذا كان التعامل باللين واللطف له نتيجة سلبية، معاكسة، تؤدي إلى فشل، إلى خلل، إلى تأثير سيئ، تؤدي إلى تمكين عدوّ، أو إشكالات كبيرة، أو صنع مشكلة في الواقع، أو جُرأة على التمادي في الخلل الكبير والمشكلة الكبيرة، أو جُرأة على إقدام على فعلٍ سيئ وخطير، فأصبح حينئذ الرفق خُرقًا، يعني أصبح وسيلة سيئة، ساعدتْ على حصول ذلك الأمر السيئ، حينها يكون التعامل بشيء من الحزم؛ بمستوى الحق والحكمة والعدل: هو الأسلوب الصحيح، الذي كنت تريد من وراء اللين واللطف أن يتحقق، تحقق بتلك الطريقة.
((رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً، وَالدَّاءُ دَوَاءً. وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ))، هذه الحِكَم عميقة جدًّا، نحن نقدم البعض أو القليل اليسير من مدلولها، وهو مفيد إن شاء الله، لكنها عميقة وذات معاني عميقة، وتفيد إفادة مهمة جدًا.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يُوَفِّقَنَا وَإيَّاكُمْ لمِا يُرضِيهِ عَنَّا، وأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَارَ، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛