المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 12 رمضان 1445هـ 22 مارس 2024م
| محاضرات وخطابات السيد القائد | 12 رمضان 1445هـ الثقافة القرآنية:
سلسلة المحاضرات الرمضانية (1445هـ)
ألقاها السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي “يحفظه الله”
المحاضرة الرمضانية العاشرة
الجمعة 12 رمضان 1445هـ 22 مارس 2024م
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة في القصص القرآني، البداية من قصة أبينا آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، سبق لنا الحديث على ضوء الآيات المباركة، التي قصَّت قصة أبينا آدم “عَلَيْهِ السَّلَام” (في سورة البقرة)، وتحدثنا أنَّ لهذه القصة في السور المباركة التي ذكرتها سياقات معينة، وفي كل سياق يتم التركيز على كثيرٍ من الدروس والعبَر المهمة جداً، والهداية الإلهية الواسعة، التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها.
والقصة أيضاً وردت (في سورة الأعراف)، ولها أيضاً سياقها المهم جداً لنا، والذي نحتاج إلى أن نستفيد منه، وفي هذا السياق ذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” جوانب معينة من القصة لم تُذكر (في سورة البقرة)؛ لأن المسألة- كما قلنا- مرتبطة بالسياق، فلهذا عندما نأتي إلى قراءة القصة (في سورة البقرة)، ثم (في سورة الأعراف)، ثم ننتقل إلى بقية السور التي ذكرتها: (في سورة الحجر، في سورة طه، في سورة الإسراء)، في بقية السور المباركة، نجد أيضاً التكامل الكبير، والفائدة المتنوعة والواسعة التي نستفيدها من الدروس المهمة والعظيمة بالنسبة لنا.
قصة أبينا آدم “عَلَيْهِ السَّلَام” كما وردت في القرآن الكريم، وتكررت فيه من جوانب متعددة، وقدَّمت الدروس والعبر، ذُكرت في كتب الله السابقة إلى رسله وأنبيائه، وفيها الدروس المهمة، التي لو استوعبها البشر في كل المراحل الماضية، ليس فقط في هذا العصر الأخير، عصر ختم الرسالات وختم النبوة، منذ أتى وبعث الله نبيه محمداً “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ” خاتم الأنبياء والمرسلين، بل حتى مع الأنبياء السابقين، ومنذ البداية لو استوعب البشر الدروس والعبر التي في هذه القصة؛ لكان واقعهم مختلفاً تماماً عمَّا هو عليه؛ لأنها دروس مهمة جداً، واستيعابها يقي الناس، ويقي من استفاد وأخذ الدروس والعبر منها، يقيه الكثير والكثير من الشقاء والخسران في الدنيا وفي الآخرة، الخسران المبين، والخطير، والأبدي والعياذ بالله.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” (في سورة الأعراف): {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[الأعراف: الآية10]، ومثل ما سبق لنا (في سورة البقرة)، قبل البدء بالقصة مباشرةً يأتي الحديث عن نعمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على البشر بهذه الأرض، وما جعل لهم فيها وخلق لهم فيها من النعم الوافرة، الكثيرة، التي لا تحصى ولا تعد.
وهذا مدخلٌ مهمٌ بالنسبة للإنسان؛ لنعرف أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو مصدر النعم، وأنه أتى بنا إلى هذا الوجود، وخلقنا في هذه الأرض في إطار نعمه، ورعايته الواسعة، وفضله الواسع العظيم، مع التكريم الكبير، فجمع لنا بين النعم المادية، الوافرة، الكثيرة، المتنوعة جداً، ومع ذلك النعم المعنوية، المتعلقة أيضاً بالجانب الأخلاقي، والقيمي، والديني، والالتزام العملي في حياة الإنسان، الذي يسمو بالإنسان، ويجعله يتعامل مع تلك النعم بطريقة صحيحة، والتمكين في الأرض له جانبين:
- الجانب الأول: ما أودع الله وخلق الله للإنسان في هذه الأرض من النعم الواسعة جداً.
- والجانب الثاني: ما أودع الله في الإنسان نفسه من مدارك، وطاقات، وقدرات، ومواهب، تساعده على الاستفادة من هذه النعم، والاستخراج لها، والتَّمَكُّن من الانتفاع بها بأشكال كثيرة، ضمن التسخير الإلهي؛ لأن الله سخَّر للإنسان هذه النعم، بحيث يمكنه أن ينتفع بها بأشكال متنوعة، وينتج منها أشكالاً متنوعة، ومنافع متنوعة.
ولهذا فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” جعل الإمكانات المادية المتوفرة في هذه الأرض تحت تصرف الإنسان، تحت تصرفه، وسخَّرها له، وزوَّده بالمدارك، والمواهب، والقدرات، والطاقات، التي تساعده على أن يستفيد منها، متمكناً من الانتفاع، والتصنيع، والاختراع، والإبداع، والانتفاع الواسع.
فالله هو مصدر هذه النعم للإنسان، مصدر النعم، فيما أودع الله في الإنسان، وفيما أوجد له، وفيما مكَّنه فيه؛ ولذلك لا يليق بالإنسان أن يستخدم نعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بالإساءة إلى الله “جَلَّ شَأنُهُ”، فالمفترض بالإنسان، واللائق به، وواجبه هو الشكر، هو الشكر إلى الإحسان العظيم، والإنعام الكبير من الله عليه، لا أن يقابل نعم الله العظيمة بالإساءة إلى الله “جَلَّ شَأنُهُ”.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}، في مقدِّمة هذه النعم التي أنعم الله بها علينا في الأرض: ما نحتاجه لمعيشتنا، في غذائنا، في أكلنا، في متطلبات حياتنا، في قوتنا، وهذا شيءٌ واسعٌ جداً، واسعٌ جداً.
عندما نأتي إلى قائمة المحاصيل الزراعية والنباتات، التي يمكن للإنسان أن يستفيد منها كغذاء، كم هي قائمة البقوليات؟ كم هي قائمة الحبوب؟ كم هي قائمة الفواكه؟ كم هي بقية القوائم؟ قوائم واسعة جداً، أصناف كثيرة جداً، وهيَّأ الله على مستوى البلدان كذلك أن تزرع البلدان أنواعاً كثيرة من المحاصيل الزراعية والنباتات، وكذلك على مستوى المواسم، في كل موسم فواكه معينة، محاصيل معينة، وأشياء كثيرة جداً، وهكذا بقية الاحتياجات التي يحتاجها الإنسان لمعيشته، وفَّرها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” للإنسان، ولكن مع هذا لابدَّ للإنسان من العمل، والأخذ بالأسباب، وغير ذلك.
فالله هو مصدر كل هذه النعم الواسعة، والمنافع الكثيرة، والمعيشة الضرورية التي يحتاج إليها الإنسان، والقوت والغذاء، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو الذي أنعم علينا بذلك، وبشكلٍ وافر، ومع ذلك بشكلٍ فيه تكريم، الطيِّبات التي أحلَّها الله- وهي كثيرة جداً ومتنوعة- جعلها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لائقةً بالإنسان، في شكلها، في مذاقها، وفي منفعتها للإنسان، وفي استساغة الإنسان لها، وطبعها بالطابع الجمالي الرائع، الذي يشد الإنسان إليها، وهكذا، من جوانب كثيرة.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}، للأسف الشديد فالإنسان هو قليل الشكر! مع أنَّ الله مصدر كل النعم عليه، ومع أنه في معيشته، ومتطلبات حياته الأساسية، يعتمد على ما وهبه الله إياه، وخلقه له، وأنعم به عليه، لكنه كثيراً ما يستخدم تلك النعم والإمكانات في الإساءة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}[الأعراف: من الآية11]، بداية الخلق للإنسان، بداية الوجود البشري حينما خلق الله أبانا آدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، وهو بداية للوجود البشري، بداية الوجود الإنساني، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلقه وهو البداية للوجود الإنساني، يعني: بداية خلق الإنسان، وأنعم على الإنسان في خلق الإنسان، كان من الممكن أن يُخَلَق الإنسان شبيهاً بأي حيوان من الحيوانات الأخرى، في شكله، في قوائمه في اليدين والرجلين مثلاً، في أشياء أخرى، وبذلك تصعب عليه الحياة، ويعاني في أشياء كثيرة، ويكون دوره في هذه الحياة دوراً محدوداً، بقدر تلك الكيفية التي خلقه الله فيها، إلَّا أنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خلق الإنسان في أحسن تقويم، كما قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين: الآية4]، وفعلاً كل الدواب التي تدبُّ على وجه الأرض، في برها وفي بحرها، ليس شيءٌ منها يشبه الإنسان، وبمستوى خلق الإنسان، الإنسان مميز في خلقه، من حيث الشكل والتركيب، والتهيئة للحركة، في طاقاته، في جوارحه وأعضائه، في مداركه… وغير ذلك.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}، فالنعمة في الخلق نفسها نعمة كبيرة، والله وهبنا الحياة، وأتى بنا إلى الوجود، ومصدر هذه النعمة العظيمة، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، أعطى الله للإنسان الصورة الجميلة، المميزة عن بقية الدواب على وجه الأرض، وفعلاً هي صورة أجمل من صورة أي حيوان على وجه الأرض، فالله أنعم على الإنسان، وفي الصور نفسها آية عجيبة، آية عجيبة على كثرة البشر، سواءً في الرجال أو النساء على كثرتهم، واختلاف صورهم مع ذلك، آية عجيبة جداً من آيات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بل في مراحل حياة الإنسان، كيف تختلف صورته من طفولته، إلى شبابه، إلى كهولته، إلى شيخوخته، فالله أعطى للإنسان هذه الصورة الجميلة المميزة، وهي نعمة، وتكريم كذلك.
{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، تكريماً لآدم، السجود ذلك كان تكريماً لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”، وهذا نعمة على البشر، ويمتد هذا التكريم إلى البشر، بأن كرَّم الله الإنسان الأول وبداية الوجود الإنساني، بسجود الملائكة له؛ تكريماً له، وعبادةً لله؛ لأنه تسليمٌ لأمر الله، وطاعةٌ لله “جَلَّ شَأنُهُ”، فهو عبادةٌ لله، تكريمٌ لآدم.
{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}، إبليس كان بين الملائكة، وهو كما ذكرنا سابقاً في المحاضرات السابقة أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بيَّن لنا (في سورة الكهف) أن أصله من الجن، ولكنه كان قد ارتقى إلى صفوف الملائكة، ليستقر بينهم، وليعبد الله في جملتهم؛ ولذلك كان يؤمر معهم، ويخاطب معهم.
إبليس امتنع من السجود، لم يسجد، {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}، وامتنع عن ذلك أشد الامتناع، ورفض ذلك، وكان موقفه مختلفاً عن بقية الملائكة، وهنا سيبيّن لنا في هذه الآيات المباركة بشكلٍ أوسع مما قرأناه (في سورة البقرة)، عن عداوة إبليس للإنسان، عن عداوة الشيطان للبشر، وعن أساليبه، وعن حقده، وغير ذلك.
ما هو السبب في امتناع إبليس من السجود؟ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كشف لنا نحن هذا السبب، باعترافٍ مباشرٍ من إبليس نفسه.
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[الأعراف: من الآية12]، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” حينما سأل إبليس، ليس لأنه يخفى عليه ما هو السبب، ما هو الدافع الذي دفع إبليس للامتناع عن السجود، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يعلم الغيب والشهادة، يعلم ما توسوس به نفس كل مخلوق، يعلم ظاهر كل مخلوقٍ وباطنه، من الإنس، والجن، والملائكة، وكل المخلوقات، لا يخفى عليه شيءٌ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولكن الله “جَلَّ شَأنُهُ” أراد أن يوثِّق لنا نحن (بني آدم) أن يوثِّق لنا نحن اعترافاً مباشراً من إبليس نفسه، عن السبب الحقيقي في امتناعه من السجود لآدم “عَلَيْهِ السَّلَام”.
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[الأعراف: من الآية12]؛ لأن الله قد أمره، وأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” سواءً فيما يأمر به ملائكته، أو يأمر به الجن، أو يأمر به الإنس، ليس هناك ما يسوِّغ لمن توجه إليه هذا الأمر الإلهي أن يرفضه، الكل عبيد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولننظر إلى من هو الآمر، لتكن النظرة والمنطلق على هذا الأساس: من هو الآمر، وليس النظر إلى أسباب أخرى، أو تفسيرات أخرى، أو تبريرات أخرى، طالما وهناك أمرٌ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فليس هناك من مجال للإنسان، ولأي مخلوقٍ آخر (الملائكة، الجن)، إلَّا الطاعة، الطاعة والتنفيذ لأوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، نحن نؤمن بأن الله هو العليم الحكيم، وأحكم الحاكمين، والرحيم العظيم؛ وبالتالي حتى لو خفي علينا وجه الحكمة تجاه أمرٍ من الأوامر، أو كان لدى الإنسان امتعاض أو أي مخلوق آخر لأسباب أخرى، فليزح عن نفسه ذلك، وليسلِّم لأمر الله “جَلَّ شَأنُهُ”، فلم يكن له من مبرر، طالما وهناك أمر من الله، لم يكن له من مبرر، ولهذا ليس السؤال له للاستفسار عن مبرر؛ لأنه لا مبرر أصلاً، لا مبرر أصلاً، فالسؤال ليس سؤالاً عن ما هو المبرر؛ إنما هو سؤال عن السبب الذي ليس مبرراً مشروعاً له؛ وإنما هو سببٌ آخر، يريد الله أن يكشفه لبني آدم باعترافٍ مباشرٍ من إبليس.
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف: من الآية12]، كان امتناع إبليس من السجود أول معصية عصى الله بها، معصية كبيرة جداً، معصية في الطاعة، في الفعل، في العمل، ولكن تبيَّن أيضاً أنَّ وراء هذه المعصية ما هو أخطر، ما هو أسوأ، ما هو أكبر، وأنها تشعَّبت وتفرَّعت عن عقدة الكبر، كان متكبراً، ويعتقد أنه خيرٌ من آدم، وأنه لا ينبغي السجود لآدم، فهو هنا يتَّهم الله في عدله وحكمته، ويصرِّح بهذا الاتهام، يُصرِّح بهذا الاتهام لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في عدله وحكمته، يعني: أنه ليس من العدل ولا من الحكمة أن يؤمر بالسجود لآدم فيما هو خيرٌ من آدم، وهو يتصور نفسه كذلك، تصوراً زائفاً، تصوراً زائفاً، واستدلالاً بالعنصر الذي خُلِق منه كلٌ منهما ورُكِّب منه؛ بينما العنصر لا يضيف بنفسه، سواءً التراب، أو النار، ليس هو الذي يحدد فضل مخلوق على آخر، أن ذلك خُلِق من تراب، وذلك خُلِق من نار، لو افترضنا والمسألة على هذا الأساس، فللتراب بركات كثيرة، التراب تنبت منه الأشجار، الفواكه، الثمار… أشياء كثيرة جداً، كم فيه من الخيرات والبركات، لكن ليست المسألة في أن يَفْضُل مخلوقٌ على مخلوقٍ آخر بالمادة التي رُكِّب منها، أن ذلك رُكِّب من نار، وذلك خُلِق من عناصر التربة، وذلك خُلِق من عنصر النار، هو كلامٌ سخيف؛ إنما خلاصته الكبر، والكبر حالة خطيرة جداً.
الكبر: حالة يتصور المخلوق الذي يتكبر أنه أكبر من أن يقبل بذلك الأمر الإلهي، أنفةٌ من قبول الحق، وأنفةٌ من الإذعان لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لسبب توهُّم أن الإنسان أكبر من ذلك، أو المخلوق إذا كان غير إنسان كما هو حال إبليس وهو من الجن كذلك، هو يتصور أنه أكبر من أن ينفِّذ ذلك الأمر الإلهي، فأنف من تنفيذ أمر الله لهذا السبب.
فيعود الكبر إلى هذا التعريف، وهو من أخطر الذنوب، وأسوئها، إذا كان المخلوق (من الإنس، أو من الجن) يتصور نفسه أنه فوق أن يُذْعِن لأمرٍ من أوامر الله، أو أن يقبل بشيءٍ من الحق، لأنه يرى نفسه أكبر من ذلك؛ فهو متكبر، متكبر.
والكبر ذنبٌ عظيم، هو أول ما عُصي الله به كما في الروايات والأخبار، وهو عقدة خطيرة جداً، عقدة خطيرة؛ ولهذا من يتورَّط في الكبر، وتكون معاصيه متفرِّعة عن الكبر، فهو شديد الإصرار، وهو يبقى مصراً على ذنوبه؛ لأنه يتفرَّع ذنوب عن الكبر في الواقع العملي: يمتنع الإنسان من اتِّباع الحق وأهله، يمتنع الإنسان من أعمال معينة، يمتنع من قبول حقٍ معين، فيتفرَّع ويتشعَّب عن الكبر في الواقع العملي معاصٍ كثيرة، ثم يكون المتكبر هو ذلك الذي يصر على معاصيه، ولا يقلع عنها، وكلما ذُكِّر؛ ازداد عتواً وعناداً، فتصبح حالة العناد، والإصرار على المعصية، هي مما يظهر كثيرًا في المعاصي المتفرِّعة عن الكبر؛ ولهذا كان الشيطان مصراً، وكان يخرج من معصية إلى معصية أخرى، كبيرة وفظيعة جداً، فمعصية الامتناع من السجود، معصية عملية، ثم يتلوها معصية توجيه الاتهام لله، وإخراج ما كان خفياً في نفسه، من الاتهام لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في حكمته وعدله، وجريمة الإصرار على المعصية، والاستمرار عليها… وهكذا ينتقل من معصية إلى معصية كبيرة أخرى، إلى طامة أخرى، حالة رهيبة جداً.
الكبر حالة خطيرة جداً؛ ولهذا يأتي التحذير منه كثيرًا في القرآن الكريم، وهو من الأسباب التي تدفع الكثير من الناس، فيما يقصُّ الله علينا عن الرسالات السابقة مع رسله وأنبيائه، وكيف كان الذي يتصدى لهم، ويواجه رسالتهم، ويقود حالة الكفر والطغيان، هم: الملأ الذين استكبروا، هم الملأ الذين استكبروا، الكبر هو من أكبر الأسباب التي تدفع البعض من الناس إلى أن يقودوا هم حالة العناد، والتصدي للرسالة الإلهية، ومواجهة الأنبياء، والهداة، والصالحين من عباد الله.
ماذا كانت نتيجة ذلك التكبر؟ النتيجة تكون معاكسة، هذا مما هو ملازم لحالة التكبر: أن المتكبر يهبط، ويسقط، ويخسر، يخسر القيمة المعنوية؛ لأنه يريد لنفسه أن يكون له شأنٌ رفيع، وأهمية ومكانة عالية، ولكن أول ما يخسره المتكبر هو ذلك، لا وزن له، لا مكانة له، لا يبقى له شأنٌ رفيع، وأهمية ومكانة عالية.
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا}[الأعراف: من الآية13]، طُرِد، طُرِد بإذلال وإهانة، وخسارة لكل شيء، من تلك الساحة التي كان فيها يتعبَّد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” مع ملائكة الله، كان قد ارتقى ليكون مع الملائكة في أماكن تعبُّدهم لله “جَلَّ شَأنُهُ”، في تلك اللحظة قد خسر إيمانه، خسر كل عبادته السابقة، وحبط كل عمله، لم يبقَ له أجر، ولا قيمة لأعماله، وفي نفس الوقت خسر مكانته، هو كان في مكانة محترمة، مكانة عالية بين أوساط الملائكة، ولكنه خسر كل ذلك دفعةً واحدة؛ لعصيانه ذلك الأمر الإلهي، وعقدة الكبر، خطورة الكبر خطورة رهيبة جداً والعياذ بالله.
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا}، الهبوط: الطرد، الذي هو طردٌ من ذلك المكان المقدَّس، وفي نفس الوقت طردٌ من المكانة التي هو فيها، من المنزلة التي كان قد وصل إليها، فخسر كل شيء.
{فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}[الأعراف: من الآية13]؛ لأن ساحة الملائكة التي يعبدون الله فيها، ومواقعهم، هي أماكن مقدَّسة، خالصة للعبادة، للطاعة، لا مجال فيها لمعصية الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولا مجال فيها للتكبر، هناك يقوم الملائكة في عبادتهم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هم يذوبون في عبادة الله، ويقدِّمون أرقى معاني العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يخضعون لله، ويتعبَّدون لله تمام التعبُّد، في أرقى ما نتصوره عن التذلل، والخضوع، والخشوع، والتعبد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
{فَاخْرُجْ}[الأعراف: من الآية13]، وهذا تأكيد للطرد بغضبٍ من الله، وسخطٍ من الله، ومقتٍ من الله والعياذ بالله، {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}[الأعراف: من الآية13]، طُرِد وحُكِمَ عليه أن يكون من الصاغرين، والصَّغَار هو: الذلة والهوان، فتكبره لم يحفظ له مكانةً معينة، لم يحفظ له مكانةً عالية، ولم يبقِ له شأناً رفيعاً، ولا منزلةً عالية، كانت النتيجة معاكسة لذلك تماماً، وتحوَّل ليكون من الصاغرين، في ذلٍ وهوان وخزي والعياذ بالله، فهو خاسر، والنتيجة خسران رهيب بكل ما تعنيه الكلمة، ذلٌ وهوانٌ في الدنيا والآخرة، يلازمه للأبد.
هو بعد كل ذلك بقي على عناده، وبقي مصراً على إجرامه، وذنبه، وعصيانه، لم يرجع إلى الله بالتوبة، أو الإنابة، أو يراجع حساباته، وينتبه إلى خسرانه، أنه يخسر ويخسر أكثر وأكثر، كلما زاد عناداً؛ كلما زاد خسراناً، وضعةً، وسقوطاً، وهواناً.
فما الذي طلبه؟ {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الأعراف: الآية14]، طلب من الله أن يُنظِرَه، يعني: أن يؤخِّر عنه الموت والهلاك، فيبقى على قيد الحياة طول الفترة التي يعيش فيها البشر في هذه الدنيا، وإلى يوم القيامة، هذا طلبه، هو يعرف أنَّ هناك يعني ما قد شرحه الله للملائكة، وهو بين أوساطهم، عن حياة البشر في بدايتها، ونهايتها، وما فيها، شرح مهم جداً، يوضِّح حقائق ذات أهمية كبيرة، ثم الحساب والجزاء… وغير ذلك، {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
لماذا يطلب من الله الإنظار، وألَّا يعاجله بالموت؟ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كشف له، وقال له: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}[الأعراف: الآية15]، وهنا يحصل التباس على بعض المفسِّرين، وبعض الواعظين، يتصوَّرون أنَّ الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” استجاب له طلبه ودعاءه، والحقيقة: أنَّ الله كشف له أنه من المنظرين، وهذا كان مقدراً من قبل معصيته، مقدراً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كان قد كتب له أن يكون من المنظرين، من الذين يبقون على قيد الحياة إلى يوم الوقت المعلوم، الذي في علم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولكنه لفترة طويلة؛ ولهذا سيعايش أجيالاً كثيرةً جداً من البشر، ويبقى هو يدير المعركة ضد الإنس.
{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}، ويأتي في سور أخرى، أنَّ الله قال: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[ص: الآية81]، {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: الآية16]، ولاحظوا كيف اتَّجه من ذنب إلى ذنب، ومن معصية إلى معصية، عقدة الكبر خطيرة للغاية، نعوذ بالله منها.
هنا بقوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}، هو يُحمِّل الله المسؤولية، فيما أوقع هو نفسه فيه من الغواية، إبليس هو الذي أوقع نفسه في الغواية، تكبر، عصى أمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لو سجد، قد سجدت الملائكة وهم خيرٌ منه، الملائكة خيرٌ من إبليس، ولم يأنفوا من السجود، وسجدوا، وسجدوا تكريماً لآدم، وخضوعاً لأمر الله، وتسليماً لأمر الله، وطاعةً لله، لم يترددوا في ذلك، وهم خيرٌ منه، فلو أنه قال لنفسه: [قد سجد الملائكة وهم خيرٌ منك]، فاسجد معهم، لكان خيراً له، فهو الذي أوقع نفسه في الغواية، ثم هو يحمِّل الله المسؤولية، يحمِّل الله المسؤولية في ذلك، ويتخاطب مع الله بكل هذه الوقاحة، وقلة الأدب، والافتراء على الله.
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، ثم هو يحلف؛ لأن هذا في مورد القسم: {لَأَقْعُدَنَّ}، (اللام) هذا، وصرَّحت به آيات أخرى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: الآية82]، مقسماً، وهذا يدل على شدة حقده، فهو حاقدٌ على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وحمَّل الله المسؤولية فيما أوقع فيه نفسه هو من الغواية، حاقدٌ على الله، وحاقدٌ على آدم وحواء “عَلَيْهِمَا السَّلَام”، وعلى ذرية آدم جميعاً، حقد شديد جداً.
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، وهو يقسم أنَّه سيتَّجه في حربه الشرسة ضد آدم وبنيه، لصدهم عن صراط الله المستقيم، وأنَّه سيتحرك ليكون مضلاً، ليتحرك في طريق الإغواء، سيتَّجه ويجعل كل جهده، وكل عمله، وكل نشاطه، وكل برنامجه، في كل الفترة التي سيبقى مُنظراً فيها، هو: السعي لإغواء بني آدم، الإغواء لهم عن صراط الله المستقيم، هو صار غاوياً، وهو يعترف على نفسه بأنه صار غاوياً، قد غوى عن طريق الحق، وانحرف عن طريق الحق، وخرج عن طريق الحق، وهو يعترف أنَّه أصبح في طريق الغواية، وأنَّه قد خرج عن نهج الحق، وهو أساء إلى الله بتحميله الله المسؤولية في ذلك، ولكنه يعترف على نفسه بأنه أصبح غاوياً، ثم يعلن- وهذه معصية كبيرة جداً- أنَّه سيتجه كل تلك الفترة التي أنظره الله فيها ليعمل على إغواء آدم وبنيه، وليبذل كل جهده في إغواء بني آدم عبر الأجيال، هذا يدل على ضلال رهيب، وخبث، خبث رهيب، خبثت نفسه بشكل عجيب جداً.
ومن أخطر نتائج المعاصي، ومنها المعاصي الناتجة عن الكبر: أنَّها تخبث بها النفوس، يفقد المخلوق- سواءً من الإنس، أو الجن- طيب نفسه، زكاء نفسه، عنصر الخير في نفسه، إرادة الخير في نفسه؛ فيكبر الشر ويتعاظم في واقعه النفسي، وكيانه الداخلي، ويتعاظم الخبث فيطغى، يطغى عن المخلوق (من الإنس، أو الجن)، وهي حالة خطيرة، مخيفة؛ ولهذا يحث القرآن الكريم على المبادرة إلى التوبة عند الزلل؛ لأن للمعاصي أضرارها وآثارها الخطيرة جداً على الجانب النفسي، بما تتركه من الخبث في النفوس، هذا يفيد عن خبث رهيب جداً وصل إليه إبليس؛ ولذلك اتَّجه لمعصية أيضاً معصية كبيرة جداً، ليكون زعيماً للضلال، زعيماً للشر، زعيماً للفساد، زعيماً للمنكر والعياذ بالله، زعيماً للغواية، أمر رهيب جداً، واتجاه خطير جداً اتَّجه فيه، وهوى إليه، وسقط فيه، ووقع فيه، وخسارة رهيبة جداً، {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: من الآية16]، فهو يبين أنَّه سيتَّجه هذا الاتجاه، بما يكشفه ذلك من خبثٍ وصل إليه، ومن عقدةٍ وحقدٍ تجاه الله، وتجاه آدم وذريته، ويكشف خطته.
والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كشف للبشر خطة الشيطان، وطبيعة الحرب التي سيشنها عليهم؛ لأنها ليست حرباً من النوع الآخر، ليكسِّر عليهم ما بأيديهم من إمكانات، أو ليحطِّم عليهم ممتلكاتهم، أو شيءٍ من ذلك، هو سيشغِّل البعض منهم في ذلك، ولكن الحرب الناعمة، الحرب التي تستهدفهم لإغوائهم، والسعي لصدهم عن الصراط المستقيم، الموصل إلى الغايات والنتائج العظيمة، التي تسمو بالإنسان، ويصل الإنسان إلى الفلاح، إلى الخير، إلى الفوز العظيم؛ فهو يريد للبشر الغواية مثله، والسقوط مثله، وأن يخسروا التكريم الإلهي الذي وهبهم الله إياه، في دينه، ونهجه، ونعمه عليهم، وما قبلهم، ما أعدَّه الله لهم في آخرتهم، يريد أن يحرمهم من كل ذلك.
{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف: الآية16]، وهو يعترف بأن صراط الله مستقيم، يوصل إلى النتائج العظيمة، والغايات الكبرى، من الفوز العظيم، والفلاح، وهو يريد أن يصرفهم ليخسروا؛ لأنه يرى نفسه أنه قد خسر كل شيء، ويريد أن يخسروا معه، وأن يوقعهم معه في الخسارة، والشقاء، والخذلان، والضلال، والغواية؛ ثم إلى نار جهنم، ليكونوا من أصحاب السعير، وأن يحرمهم من جنة الخلد في الآخرة.
{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: الآية17]، يقول: أنه سيبذل كل جهده، ويستخدم كل الوسائل والأساليب في العمل على إغوائهم، وسيأتي الإنسان من كل جهة، ليبحث عن ما هو الذي يمكن أن يؤثِّر به على نفسية الإنسان لإغوائه؛ لأن نفسيات الناس تختلف، البعض قد تؤثِّر فيه الشهوات، البعض قد تؤثِّر فيه الأطماع، البعض قد تؤثِّر فيه المقامات المعنوية، البعض قد تؤثِّر فيه المخاوف، البعض… وهكذا، يبحث عن أي ثغرة يمكن أن يَنْفُذ منها ليؤثِّر على الإنسان لإغوائه في شيءٍ معين:
- من يمكن أن يكون ضعيفاً أمام شهوات النفس، سواءً الشهوات المادية، أو الشهوات المتعلقة بالرغبة الجنسية… أو غيرها، فيحاول أن يوقعه في المعصية بتلك الطريقة.
- من يطمح للمقامات المعنوية، أو للسلطة والنفوذ والتأثير، يحاول أن يدخل له من ذلك المدخل.
- من هو في اتِّجاهه اتجاه متدين، يعشق التدين والدين، ويتمسَّك بالتدين، يحاول أيضاً أن يغويه بأي طريقة، في طريقة تدينه: إما بغلو، إما بابتداع، إما برياء، إما بعجب، إما بغرور… أي طريقة من الوسائل والأساليب التي يؤثِّر عليه بها.
فهو سيبحث في ملف كلِّ إنسانٍ يستهدفه بالإغواء عمَّا هي الطريقة التي يمكن أن يؤثر عليه فيها، أين هي نقطة ضعف هذا الإنسان أو ذاك، وهذا ما يعنيه بقوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}، يعني: من كل الجهات التي يمكن أن يؤثِّر بها على الإنسان للبحث عن نقطة ضعفه.
{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}؛ لأنه يريد أن يقابلوا نعمة الله عليهم، التي هي نعمة عظيمة جداً، وتكريم الله لهم، بكفران النعمة: الإساءة إلى الله المنعم الكريم الوهاب، في مقابل أنهم تسببوا فيما يتصوَّر هو، وإلا فليس هناك مسؤولية على الله فيما وقع فيه من الغواية، ما وقع فيه إبليس من الغواية والذنب، هو المتحمل للمسؤولية في ذلك، ولا على آدم، ولا على بني آدم، هي عقدته هو، إبليس عقدته الكبر، وهو بصرفهم عن الشكر للنعم، التي تعني: الاستخدام لنعم الله بطريقة صحيحة، ليس فيها إساءة إلى الله؛ لأن استخدام نعم الله بطريقة تسيء إلى الله، هو سوء استخدام للنعمة، يترتب عليه أضرار ومفاسد على الإنسان نفسه، وإلَّا فالله غنيٌ عن شكرنا، وعن عبادتنا، وعن طاعتنا، وعن التزامنا، لكن هذه هي الحقيقة: سوء الاستخدام لنعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيه إساءةٌ إلى الله من جهة، وفيه مضار ومفاسد على الإنسان في حياته، ويجازى على ذلك في الآخرة أيضاً.
نستكمل القصة، ونستكمل أيضاً الدروس والعبر في المحاضرات القادمة.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛