أطهر بشر. بقلم/ صادق البهكلي.
عفواً فما لغة المديح تليق تنثر أبجديات الحروف على رجال العزم حين تدافعوا نحو الميادين. أباه.
كأنما نزل الحفاة الشعث من قلب السماء لا من قراهم حيث كانوا يعصرون من العناء لهم حياة.
ومن إين لي أسلوباً وبلاغة لأرصف لهم من حروف الامتنان نعالاً لا قداماً سلبت طراوتهن أشواك الحرمان..
فوطنهم الذي كان ضائعاً بين صخب الخونة وضجيج الأدعياء وبين شهوة المغتصبين لم يكن لهم منه سوى ملوحة عرقهم.
أطهر بشر: رجالٌ عظماء ذوي نفوس عزيزة ظلمتها سطوة الانتهازيين وهمشتها نظرة الإقصائيتين المستبدين فعاشوا يستملحون شقاوة الحياة ويستطيبون معاناتها.
لم يمنحهم الوطن مدرسة ولا مستشفى ولا كهرباء ولا ماء رغم حاجتهم الماسة وكل ما منحهم انتماء لا نهاية لجذوره يستمدون ديمومتهم من لون ترابه وكرامتهم من طيبة طينته وعزتهم وإبائهم من شموخ جباله وصبرهم من سدره واشجاره.
تخيلوهم وهم يرتدون ثياب البساطة ويتشحون رداء العوز و يتمنطقون بقناع القناعة.. تخيلوهم وهم يحرثون الأرض بثيرانهم المجهدة، ويزرعونها قمحاً وعدساً وزعتراً وكروماَ وتيناً ورماناً.. تخيلوهم وهم في حقولهم في زوايا الوديان وعلى مدرجات جبالهم الشامخة كنفوسهم.. وأكاد أسمع أصواتهم المفعمة بحب الحياة وأغانيهم التي تطل من قلوبهم إلى حنايا الأرض حباً وريحاناً..
لم يعرفوا العالم ولا حتى أغلب مناطق وطنهم ولم يشاهدوها سوى من شاشات التلفاز .. لم يحلموا برحلة إلى جزر البهاما او حدائق ومتنزهات باريس .. أحلامهم الكبيرة لا تتعدى رحلة تعرفهم بجزء من وطنهم .. رحلة تعرفهم حتى عاصمة بلدهم .. لم يكن بأيديهم ما يستطيعون تحقيق أحلامهم البسيطة لأن خيرات بدلهم وما تنتجه سواعدهم الندية تذهب إلى بطون تأكل السحت ثلة غادرة استولت في غفلة من عيون الشعب على مؤسسات الدولة فنهبت خيراتهم وعاشت حياة الترف والثراء أطفالهم يقضون طفولتهم في متنزهات سويسرا وباريس ومدينة ديزني لاند وغيرها وشبابهم ينعمون بملذات الدنيا في شواطئ وجزر السياحة والراحة ويتعلمون في ارقى الجامعات العالمية فيما أبناء الوطن الريفيون البسطاء الشعث الغبر يلتحفون أحلامهم وبقايا أمل يمنحهم رمقاً يحميهم من قسوة اليأس .. وحينما وجد الوطن نفسه أمام مقصلة الاستعمار لم يجد سوى رعاياه البسطاء ليحتمي بهم أما أولئك فقد هربوا يبحثون عن وطن آخر.
لن اتحدث في حضرة هؤلاء الأطهار عن زمرة الغدر من تعطروا مراراً من دماء ضحاياهم .. لن أتحدث عن أدعياء الوطنية الذي سكروا سنيناً على خمرة دماء المظلومين .. فما جلبوا لوطنهم سوى الجوع وجفاف الضروع.
فلا يليق بنا ونحن نتحدث عن أطهر بشر، الذين لبوا نداء وطنهم وهم المثخنون بجراحه عندما نادهم تركوا كل شيء..
تركوا حقولٌ وزرعٌ تتمايل بما حملت وأثقلت.
تركوا “جمنة” ” البن” واقراص الذرة وفطور السمن واللبن.
تركوا مصافحة الصباح على السطوح: وتحية العصافير المعزوفة على شرفات منازلهم..
تركوا “مقايلهم” وسرد الذكريات: عن الحروب السابقة وما فيها من أهوال وسجال ومهمات خاصة ورجال جعلوا السماء تمطر ماء ودماء.
وامتشقوا أسلحتهم و ” جعبهم” وغادروا قراهم على اصوت معزوفتهم المفضلة .. إما حياة بعز وإلا موت من بعد الشرف يا لعن ابو من عاش في الدنيا ذليل”..
نفروا في سبيل الله خفافاً وثقالاً وتوزعوا على جبهات الشرف والبسالة وعلى امتداد خريطة الوطن من صعدة الى عدن ومن الحديدة الى مشارف حضرموت..
وفي كل يوم يرحلون عنا .. يصعدون من بينا ولا نكاد نسمعهم ولا نحس بهم .. لكننا فقط نرى فيما بعد أثرهم ونقول بلغة العجز والحسرة “كم كانوا عظماء”..
و في كل الميادين قدموا نفوسهم رخيصة في سبيل الله وفي سبيل وطنهم وكرامة ابناءه لا يريدون من أحد لا جزاء ولا شكورا..
فسلام الله على هؤلاء الاطهار الأنقياء الذين أبلوا بلاء حسناً وسطروا بدمائهم تاريخ جديد لليمن، يمن البأس والشجاعة والكرم والإباء..