الحفاة أقوى على أرضهم: سلّم نفسك ياسعودي.
تبدو سرديّة الحرب اليمنية (قيد الصناعة) كما لو أنها تميل أكثر نحو إنضاج الظروف المهيئة لخاتمة الجولة القائمة اليوم
فهي «جولة» لأنه لا يمكن بطبيعة حال اليمن وعناصره المكونة لفسيفساء الساسة والعسكر الفصل بين سلسلة الصراعات والحروب التي أنتجتها صنعاء وصعدة وعدن إذ لا ينفع إنتاج «إضبارة» أكاديمية لا تختلط فيها ملامح المعارك، ولا تتداخل فيها العوامل الدافعة لصناعة الحرب عند كل منعطف سياسي وهذا كله يفترض الأخذ أثقالها «التاريخية» بالاعتبار، بحسب طبيعة المنخرطين والمتدخلين من خلفهم. على هذا المنوال من الترابط العضوي، جاء الحدث اليمني دوماً «متراصاً» وبتفاعل متسلسل في ظل نسق شبه موحّد «لنشأة» الحروب الداخلية وامتداداتها الحدودية أو الخارجية، الذي يصلح لأن يكون ركيزة لتحليل مسار المعارك و «مخرجاتها» شبه النهائية دوماً.
«الحفاة» أقوى على أرضهم
يقول الديبلوماسي البريطاني الراحل أنثوني ناتينغ في السيرة الذاتية التي أعدّها عن الزعيم جمال عبد الناصر، إن الأخير أراد في تدخّله بالحرب اليمنية في ستينيات القرن الماضي إلى جانب القوات الجمهورية الثائرة على «الإمامة» الزيدية، استعادة «الهيبة» المصرية في العالم العربي عقب انهيار الوحدة مع سوريا، بما يشكل رافعة «قياسية» لدور عبد الناصر في قيادة المنطقة في صراعها مع إسرائيل. كل ذلك من خلال انتصار عسكري سريع وحاسم. لكن ما لم يقله ناتينغ أن عبد الناصر ارتكز إلى مجموعة «مفاهيم» شعبية في قراءة الواقع اليمني، تتقاطع إلى حد بعـــــيد مع القراءة السعودية المنتجة للحرب الحاليّة (بشقها غير المحليّ). فالقيادة المصرية افترضت يومها أن حكايا حروب اليمن الممــتدة لمئات السنين، وأحـــــدثُها في ذلك الوقت الحرب اليمنية ـ السعودية العام 1934، ليست سوى سرديات غير موثّقة يتــــداخل فيها الوطني بالتراثي، وأن الحرب مع جنود يلبسون «الصنادل» و «النعال» ستكون نزهة سريعة.
تظهر مذكرات قائد «القوات العربية» في اليمن خلال حرب ما بعد ثورة العام 1962 الفريق أول عبد المحسن مرتجي، أن القوات المصرية دخلت في حرب تختلف عناصرها الجزئية إنما المؤثرة، عما تظهره الخرائط العسكرية، التي تعجز عن تبيان تقلبات الطقس ووعورة المسارات وصلابة المقاتلين الذين تختلط فيهم خبرات حروب الجبال والصحارى. كما تظهر أن نحو ستين ألف جندي مصري كانوا يعيشون حالة من الضياع في تعاطيهم مع «العناصر» المحليّة وتقلّباتها الشديدة، خاصة عندما تجتمع في مكونات قبليّة واحدة. لكن الصورة الأكثر «تظهيراً» لواقع الحرب المأساوي هناك ما قاله المرتجي عن أقدام الجنود المصريين، التي كانت تدمى بسبب الأحجار والصخور الحادة، بعد تقطيع الأخيرة أحذية الجنود المصنوعة بعناية وفق تقنيات مصانع أوروبا الشرقيّة، ما يعني أن للحرب في اليمن أدواتها وأساليبها وطرقها التي لا يمتلكها ويتقنها إلا الجنود «الحفاة».
ارتسام خطوط التماس
برغم آلاف المقاطع والصور التي أنتجتها الحرب اليمنية الحالية وما زالت، إلا أن صوت مقاتل يمني وهو ينادي جندياً سعودياً داخل حاميته في مكان ما في نجران، يمكن أن يشكل عنصراً حاسماً في قراءة المعركة مجدداً، ومحاولة صناعة صورة شبه وافية عن نهايـة مساراتها. فنداء مقاتل يمني لآخر سعودي ومطالبته بتسليم نفسه، مهما بدا حدثاً طبيعياً في جزئيات الحروب، يبقى علامة فارقة ومؤشراً مباشراً على انهيار «هيكل» التفوق المفترض في الصراع ما بين الجانبين، خاصة أن «الاستسلام» المفترض هذا، تدور رحاه ما وراء الخطوط السعودية الدفاعية، وبطبيعة الحال ما وراء الخط «السيادي» الفاصل ما بين المملكة و «شقيقها» اليمني الأصغر. وهذا يعني وفقاً لضرورات الأرض ومسارات المعركة أن الحرب خرجت عن نطاق سيطرة المملكة العربية السعودية و«تحالفها» العربي، بل أصبحت أكثر انفتاحاً على إنتاج حالات تتخطى قدرة الاحتواء، ما يعني كثافة غير محسوبة في عديد ونوعية الأوراق التي تتملكها صـنعاء تباعاً على طاولة الحل النهائي.
لا تكفّ المعركة هذه عن إعادة إنتاج الذات في مقارنتها مع التجارب التاريخية الأخرى، تحديداً المصرية منها، خاصة في تعدّد الجبهات وتداخلها، بالتوازي مع رتابة تمتد لأكثر من عام في مناطق القتال الأساسيّة في تعز ومأرب وما بينهما من مناطق في الوسط. وهي رتابة تعني أن أيّاً من الطرفين لم يعد بإمكانه الدفع قدماً وإحراز تقدم بالمعطى العسكري المباشر لتمريره في الاستحقاق السياسي. فإلى حد بعيد استفاد الحوثيون ومعهم الرئيس السابق علي عبد الله صالح من تكريس سيطرتهم على المنطقة الشمالية، وفقاً لخطوط التماس القائمة على حدود حرب العام 1994 بين صنعاء وعدن، ما يعني إزاحة تركة التناقض التاريخي الجنوبي عن كاهلهم. وهذا يفترض أيضاً ابتعاداً عن البيئة الحاضنة للمشروع «الوطني» الجنوبي ومطلبه القاضي بالانفصال، وكذلك البيئة الحاضنة الموازية للتنظيمات السلفيّة الجهادية في صــــراعها القائم مع الجميع من حضرموت إلى عدن، على أن يبقى الدفاع عن المناطــق الوسطى والشمالية خاضعاً لطبيــــعة الأرض وتوازناتها، وهي معطيات تبدو ثابتة لمصلحة صنعاء إلى حد بعيد.
في مقابل الرتابة في جبهات الداخل، آثرت القوات اليمنية المشتركة («حوثيون» وجيش) تسريع وتيرة الحدث من دون الخوض في خيارات «مجنونة» من قبيل استخدام الصواريخ البالستيّة أو الذكيّة في ضرب أهداف بحريّة أو استراتيجية. إذ إن ذلك يمكن أن يُظهر ميلاً غير ناضج في إدارة المعركة، على اعتبار أنه يستنفد خيارات حافة الهاوية من دون طائل عمليّ. فالاستخدام المقنن للترسانة البالستيّة يظهر حرصاً من الحوثيين والرئيس صالح على عدم الظهور كتنظيــمات مارقة، ولكن كجبهة موحّدة منفتحة على التسويات، في مقابل حرص آخر على الترسانة التي لا يتم تعويض فاقدها باليسر المطلوب نظراً لظروف الحرب. بالتوازي مع القدرات الصاروخيّة اتجهت صنعاء نحو تحويل الحرب الحدودية مع الرياض إلى سلاح «استراتيجي» بالمنتـــــوج السياسي النهائي وجعلها نقطة أساسيّة في الحوار مع «الشــــرعيّة» اليمنية الممثلة للسعــــودية على طاولة التفاوض.
الحرب المقنّنة بانتظار الحلّ النهائي
من وجهة النظر اليمنية في العاصمة صنعاء لم يعد بالإمكان الدوران حول عمليّة إعداد حل نهائي يرتكز إلى تطبيق القرارات الدوليّة المعنية بالأزمة اليمنية الحالية كالقرار 2216 وما يعنيه من تخلٍّ عن مكتسبات مرحلة ما بعد 21 أيلول من العام 2014. لذلك جاء المخرج من وجهة النظر المحليّة بالذهاب نحو تفعيل العمل السياسي الموازي للعمل المسلح عبر تشكيل المجلس السياسي وما يعنيه في الشكل من تعيين «رئيس» للبلاد مع فريق معاون، وما يؤكده من اتجاه صنعاء نحو تسيير أمورها السياسية والإدارية الداخلية بمعزل عن طبيعة التفاوض في الخارج. وهذا بحدّ ذاته يخلق نوعاً من التوازن السياسي في الخطابة الديبلوماسية الخارجية التي ارتكزت طوال الفترة الماضية على أدبيات «الانقلابيين» في مواجهة «الشرعيّة». كما دعّم التحالف اليمني الشمالي خطوته هذه بالتظاهرة «التاريخيّة» في 20 آب الماضي، لإظهار الثقل الشعبي لتحالف الحوثي ـ صالح، في مقابل أطراف متداخلة ومتصارعة في الجنوب، برغم القبة الحديدية الممنوحة لهم من الرياض.
بالتوازي مع التصعيد السياسي جاء التسريع في وتيرة العمليات الحدودية والتوغلات، ومرافقتها بالجهاز الإعلامي المصاحب للحرب من جهة القوات اليمنية المشتركة، للوصول إلى مقطع «سلّم نفسك يا سعودي»، خاصة أن هذه العمليات يمكن أن تشكل ضربة معنوية قياسية للقوات الملكية البريّة السعودية، التي تشكل عصب المعركة من الجهة الأخرى. علماً أن هذا يأتي بعد سحب القوات اليمنية الموالية للرياض بقيادة الجنرال علي محسن الأحمر من المنطقة الحدودية، وإعادة نشرها في مأرب أملاً بتعويض نقص القوة بعد انسحابات قبلية مؤثرة في تلك الجبهة، إضافة إلى إشغال هذه الحرب لقطاعات واسعة في القوات السعودية المسلحة. إذ تقتضي المهمة في هذا الوارد الدفاع عن الوطن بمعزل عن مسببات الحرب وأهدافها النهائية، فأصبح من الطبيعي خلال الأسابيع الماضية تسجيل عشرات الغارات الجوية السعودية يومياً على مناطق داخل المملكة، في ظل العمل على تحصين المدن الكبرى في مناطق نجران وعسير، خوفاً من تمكن القوات اليمنية من الدخول إليها وتكرار نموذج سقوط مدينة الربوعة السعودية منتصف الحرب القائمة حالياً.
تقرير/عبدالله زغيب.