برنامج رجال الله اليومي.
الحق لا بد من بذل المال في سبيله كما يبذل اهل الباطل في سبيل باطلهم.
السيد حسين بدر الدين الحوثي.
معرفة الله نعم الله الدرس الثالث صـ5ــ6.
أن يشدني الله سبحانه إليه من خلال تذكيري بما أنعم علي من النعم العظيمة هو شدي إلى الكامل المطلق إلى الكمال، إلى من يعتبر ارتباطي به وقربي منه تكريماً لي. لكن لاحظ كيف يكون بالعكس فيما يتعلق بالناس فيما بينهم، كيف يشعر الإنسان بالضعة، يشعر بثقل، بوطأة معروف معين أسدي إليه على نفسه، وصاحبه يكرر [أنا عملت لك كذا، أنا سويت لك كذا…]إلى آخره.
ولذا تلاحظوا أنه حتى المؤمنين نهو عن المنّ، وجَعل المنّ مما يبطل أثر الصدقة, وحَكَم القضية بالنسبة للمعطي ـ إذا كان يريد أن يكون لعطائه أثر ـ هو أن يبتغي به وجه الله {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً}(الإنسان: من الآية9) بحيث لا يشعر الطرف الآخر بأنه يراد مني من وراء ما أعطى استغلال عواطفي نحوه، فهذا أشبه شيء بمن يعطي رياء مثلما قال:{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}(البقرة: من الآية264) {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراًً} {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}(الليل:19ـ20).
أو أقل شيء إذا لم يكن الإنسان متذكراً لهذه الأشياء مثلما يحصل ربما للكثير الكثير من البشر فأن يكون من منطلق إنساني بحت، أو منطلق المكافئة المتبادلة فيما بين الناس، من باب {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}(الرحمن:60).
أن نرسخ في المجتمع ـ من خلال المنّ بما نعطي ـ نرسخ في المجتمع إخضاع العواطف للتأثيرات المادية هذه سيظهر لها سلبيتها الكبيرة حتى وإن كنا مؤمنين، نحن قد لا نستخدم العواطف التي قد يتركها ما نعطي في هذا الشخص، قد لا نستخدمها في جانب الباطل، لكن المنّ الذي يعني التذكير واستغلال العواطف وإشعار الآخر بأن عليه أن يسير كما أريد، ترسيخه يصبح مما يعرِّض المجتمع لخطورة بالغة بالنسبة لأهل الباطل، فيأتوا ليدفعوا أموالاً أكثر منك، ويستخدموا نفس الأسلوب في التذكير بما أعطوا، ويعرضوا للآخرين منجزاتهم فيما أنجزوه في مجال كذا وكذا وكذا، فتصبح ذهنيتنا ـ وبحكم أننا قد روَّضْناها على أن تسير خلف من يسدي إليها معروفاً ـ فتصبح معرضة لأن تدفع بالإنسان إلى أن يقف المواقف الباطلة، ويؤيد الباطل، ويدخل في الباطل.
والحقيقة أنه لا يمكن أن تستخدم المادة، أو أن يضحى بالقيم، بالدين في مقابل المادة، بل العكس هو المطلوب من الإنسان {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}(التوبة: من الآية111) في حالة المقارنة بين الماديات والقيم والمبادئ الدينية يضحى بالماديات حتى وإن كانت أغلى الماديات لديك التي هي روحك وجسمك بكله تضحي به من أجل الدين، ولا أن تبيع الدين في مقابل المادة، لا في مقابل ما تحصل عليه من مصلحة لنفسك أنت، ولا من باب مراعاة مصالح الآخرين، إذا كان هناك مثلاً شخصيات لها مصالح من جهة معينة وعمل معين يقولون: يا جماعة أنتم ستؤثرون على مصالحنا، نحن معنا كذا وكذا وليس لكم حق أن تأثروا على مصالحنا بما يؤدي إلى قطع معاشاتنا أو مساعدات معينة. قل له: نحن شخصياً أُلزمنا بأن نضحي بأموالنا من أجل دين الله، فكيف نراعي مصالحك أنت ونؤثرها على دين الله، وأنت ممن يلزمه أن يضحي بمصالحه من أجل دين الله؟!.
لهذا نلحظ كيف أنه لا يجوز إطلاقاً أن يتحدث بعضنا مع بعض من باب المن بما أعطى؛ لأنك تربي المجتمع على أن تُسخَر عواطفه للباطل، فيظهر هذا ويقول: صاحب المنجزات العظيمة, ونحن ونحن ونحن..إلخ، وأنا قد ربيتك من قبل، وأنا أتحدث معك: [يا أخي أنت تعلم أني قد أعطيتك كذا وكذا وأنت تعلم أننا فعلنا كذا. فتقول: والله صحيح ولا يهمك إبشر].
أليست هذه واحدة، ألست أنت تقوده بعواطفه؟ سيقوده الآخرون بهذه العواطف، فنهى حتى المؤمنين؛ لأن هذا سيرسخ في المجتمع تربية لأن ينقاد وراء العواطف التي تخلقها التأثيرات المادية، وهذا من أخطر ما يضرب الأمة، تصبح المقاييس مادية كلها، بدل أن تكون كما قال الإمام الخميني رحمة الله عليه: معايير إلهية, هو قال: (يجب علينا أن تكون معاييرنا إلهية) أي المقاييس التي من خلالها نتعامل مع الآخرين, أو نقف مع الآخرين إلهية وليست مادية.
أن أراك ممن يجوز لي أن أقف معك في موقفك فأؤيدك باعتبار موقفك, باعتبار موقفك حق أُؤيدك، لكن أن آخذ منك مبلغ من المال فأؤيدك، أو تسدي إليّ معروفاً معيناً فأؤيدك وأنت على باطل، هذا مما يعني أنني جعلت المقياس في تعاملي مع الآخرين, في أن أقف معهم, أن أؤيدهم, أن أشاركهم في أعمالهم، هو ما يكون هناك من عائدات مادية.
وهذه خطورة بالغة؛ لأن الباطل يستخدم المال، المال هو وسيلة يستخدمه الحق ويستخدمه الباطل، فأنت ملزم بأن تنفق مالك في سبيل الله؛ لأن الحق لا بد من بذل المال في سبيله، وأهل الباطل يعلمون ويتأكدون بأن الباطل لا يسير إلا بواسطة المال. إذاً فالمال هو سلاح ذو حدين؛ فلهذا يجب على الإنسان أن ينظر إلى الأشياء معتمداً على مقاييس إلهية وليس من خلال الماديات.
فرعون الذي ذكر الله سبحانه وتعالى قصته في القرآن من أول من استخدم هذا الأسلوب:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (الزخرف:51ـ54)
المقاييس لديهم مادية، أساور من ذهب رأوها في يد فرعون، وموسى رجل لا يملك هذه, وهكذا أنهار هنا ولا يعرفون أنهار الحق هناك، وأنهار العزة والشرف، أنهار القيم المثلى. استخف فرعون قومه في مقابلة موسى, نبي من أنبياء الله يملك عشر آيات بينات رأوها هم وعايشوها هم، لتعرف كم هي الخطورة شديدة جداً إذا ما انطلق الناس لينظروا نحو الأشياء وفق مقاييس مادية.
إن نبي الله موسى كان يمتلك آيات بينات وعايشوها هم الفراعنة وأهل مصر, الدم والضفادع والقمل والجراد, هذا مما كانوا يعانون منها حتى طلبوا من موسى أن يدعو الله أن يرفعها عنهم وأنهم سيؤمنون به وسيطلقون معه بني إسرائيل، ليست المسألة أنهم لم يعرفوا شيئاً، لكن نسوا مسألة أن لا ينظروا إلى الأشياء فتكون لها قيمة من خلال الماديات. استطاع فرعون أن يخدعهم؛ لأنهم كانوا قوماً فاسقين، يهمهم مصالح أنفسهم, يهمهم مادياتهم ومشاريع وخدمات فليكن فرعون في مقابل موسى لا توجد مشكلة.
هذا كإتمام للموضوع الذي ذكرناه بالأمس. ويمكن أنه بقي نقطة واحدة هي: حول ما في التذكير للإنسان بنعمة الله عليه, في أن ينظر أن كل ما بين يديه هو نعمة من الله وأنها ذات قيمة, هي نفسها مما تساعد على التفكير فيها كما قال سابقاً:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الرعد: من الآية3) بعدما قال تعالى:{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل: من الآية14) {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثـية:13)
فينطلق الناس وهم يرون أن كل ما بين أيديهم له قيمته المرتبطة بمسؤوليتهم كخلفاء لله في الأرض، ومتذكرين أنها نعمة من نعم الله. فهذا هو نفسه من إحدى الدوافع بالإنسان إلى أن يغوص في أعماق مفردات هذا العالم فيبدع، وينتج، ويصنِّع، ويكتشف الأسرار التي أودعها الله في هذا العالم.
من هنا نعرف كم هو الفارق بين ما تعطيه هذه الآيات وبين من ينطلقون فيتحدثون مع الناس ويعظونهم بالزهد في الدنيا، وأن النظر إلى الدنيا يجب أن يكون نظر من يرفضها ولا قيمة لها وأنها غرّارة خداعة مكارة، واتركها، ويسمح لك فقط من أطرافها، ولا تأخذ إلا الكفاية منها فقط, أن هذا نفسه من إحدى العوامل التي ضربت المسلمين فجعلتهم بعيدين عن أن يستخدموا ما سخر الله لهم في السموات وفي الأرض، وأن يتفكروا فيها؛ لأنها أصبحت ليست ذات قيمة لديهم، ليست ذات قيمة، هي كلها لا تساوي جناح بعوضة! بينما التذكير يوحي: أن الله يذكِّرنا أن ننظر إليها كذات قيمة، لها قيمة.
وعرف الآخرون كيف أن لها قيمة، الرجال عرفوا كيف أن لها قيمة, بل حتى الأشياء التي نكمم أنوفنا عندما نمر من عندها يعرفون أنها أيضاً لها قيمة، كيف هم يستخدمون المجاري بمحطات تصفية فيستخرجون منها الأسمدة، ويستخرجون أيضاً الماء من جديد نقياً فيعاد لسقي الأرض من الحدائق والبساتين والمزارع، وأسمدة تباع بملايين الدولارات.