كلمة السيد عبدالملك الحوثي خلال فعالية الجامعات اليمنية بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف 1441هـ
| خطابات ومحاضرات السيد القائد | 6 ربيع الأول 1441هـ/ الثقافة القرآنية:-
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّداً عبدُه ورَسُوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأخيارِ المنتجبين، وعن سائرِ عِبَادِك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات الحاضرون جميعاً:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وأتوجه إليكم بالمباركة والتهاني بهذه الفعالية التي تأتي ضمن الفعاليات التحضيرية التي هي نشطة في هذه الأيام، كعملية تحضير ليوم المناسبة: يوم ذكرى ولادة رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
يقول الله “سبحانه وتعالى” في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس: 57-58]، من توفيق الله “سبحانه وتعالى” لشعبنا العزيز، يمن الإيمان والحكمة، أحفاد الأنصار، وأبناء الفاتحين، أنه في المقدِّمة بين أبناء الأمة من حيث اهتمامه المتميز بهذه المناسبة العزيزة والمجيدة والعظيمة، وفي هذه الأيام هناك الكثير من الفعاليات التحضيرية، وشعبنا العزيز قد جعل من هذه المناسبة المهمة مناسبةً يعبِّر فيها عن ولائه العظيم لرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، وجعل من هذه المناسبة محطةً للاعتراف بنعمة الله “سبحانه وتعالى” العظيمة علينا جميعاً كمسلمين، بل على البشرية جمعاء، عندما أنعم بهذا الرسول الخاتم “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وبالقرآن العظيم، وبالإسلام (الدين العظيم)، وجعل منها أيضاً محطةً توعويةً وتنويريةً بما يقدم فيها من البرامج والأنشطة التوعوية المهمة، التي تعيدنا إلى خط الأصالة في الاقتداء برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، والتمسك بمنهجه، والإتباع له، والاقتداء به، وأيضاً العودة إلى عناصر القوة التي نحتاج إليها في مواجهة كل التحديات والأخطار، والمتمثلة هذه العناصر المهمة للقوة بهذا الدين العظيم في أسسه، في منهجه المبارك، في نبيه العظيم “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
شعبنا اليمني جعل من هذه المناسبة محطةً توعوية، وكذلك محطةً تعبوية للتعبئة الروحية والمعنوية، في مرحلة نحن فيها كمسلمين بشكلٍ عام في كل شعوب أمتنا وبلدان أمتنا، وكذلك في المقدمة شعبنا العزيز وفي بلدنا هذا نحن جميعاً في أمسِّ الحاجة إلى الاستفادة من هذه المناسبة التي هي مناسبةٌ معطاءةٌ وغنيةٌ جداً، غنيةٌ جداً بالدروس والعبر، ومحطةٌ غنيةٌ أيضاً بعطائها التربوي، وعطائها المعنوي، وعطائها المعرفي الذي نحتاج إليه، شعبنا العزيز هو يتحرك في هذه المرحلة وهو يعزز ويعمِّد بدمائه مسيرته التحررية، مسيرة الاستقلال، مسيرة الكرامة، ويسعى لأن يبني واقعه على أساسٍ صحيح، على أساس المبادئ العظيمة، والقيم والأخلاق التي ينتمي إليها في هذا الإسلام العظيم، في هذا الدين القويم.
عندما نحتفل، عندما نُظهر كل مظاهر الفرح والابتهاج في هذه المناسبات التحضيرية، وعندما تأتي أيضاً مناسبة يوم المولد ذكرى يوم المولد في الثاني عشر من هذا الشهر الأغر، التي ستشهد- إن شاء الله- حضوراً كبيراً ومتميزاً في كل الساحات المحددة للاحتفال بهذه الفعالية، نحن نعبِّر عن التقدير لنعمة الله “سبحانه وتعالى”، عن الاعتراف بفضل الله “سبحانه وتعالى”، حينما قال الله “جلَّ شأنه”: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}[يونس: من الآية58]، فضل الله المتمثل برسالته العظيمة، بهديه العظيم، برسالته وبرسوله الكريم الذي تحرك بهذه الرسالة، الذي سعى لإقامة هذا الدين، الذي أرسله الله كما قال “جلَّ شأنه”: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: الآية107]، هذه النعمة العظيمة التي من واجبنا الإيماني وبحكم هويتنا الإيمانية أن نشكر الله عليها، وأن نظهر الفرح بها والسرور والاستبشار.
إنَّ أعظم النعم على الإطلاق بين كل نعم الله التي لا تحصى ولا تعد، وفي نفس الوقت أعظم وأهم الاحتياجات الإنسانية التي يحتاج إليها الإنسان أكثر من غيره من بقية المخلوقات والكائنات على هذه الأرض، إنها نعمة الهدى، نعمة الهدى هي أعظم النعم، والإنسان في أمسِّ الحاجة إليها قبل كل النعم الأخرى النعم المادية الأخرى، ولذلك علَّمنا الله “سبحانه وتعالى” أن نقول في كل صلاةٍ نصليها ونحن نتوجه إلى الله “سبحانه وتعالى”: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 6-7]، فالله “سبحانه وتعالى” يرشدنا إلى أن يكون أهم سؤلٍ لنا ومطلبٍ لنا نسأله ونطلبه ونرجوه من الله “سبحانه وتعالى” هو الهدى، الهداية إلى الصراط المستقيم؛ لما لهذا من أهمية حاسمة بالنسبة للإنسان، يترتب على ذلك سعادته وفوزه وفلاحه في الدنيا والآخرة، أو فيما إذا لم يتوفق لهذه الهداية الإلهية يشقى ويخسر في الدنيا، وفي الآخرة الخسران الأبدي والفظيع والرهيب جداً.
الهدى هو أهم احتياج يحتاجه الإنسان؛ لأنه يترتب عليه أهم ما يحتاج إليه هذا الإنسان في حياته في الدنيا، وفي مستقبله الأبدي في الآخرة، والله “جلَّ شأنه” قال في القرآن الكريم: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: من الآية38]، يعني: لهم المستقبل المطمئن، المستقبل السعيد، المستقبل السليم الذي لا تشوبه الخسارة والشقاء، {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ويقول “جلَّ شأنه”: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}[طه: من الآية123]، وأخطر شيءٍ على الإنسان هو الضلال، هو الضياع، هو الشقاء، هو الخسران، ولذلك الإنسان يضمن لنفسه الخير كل الخير، والفلاح، والفوز، والسعادة، من خلال ماذا؟ من خلال اتباع الهدى، فالإنسان أحوج ما يكون إلى الهدى، ولذلك يتحدث القرآن الكريم عن نوعية من البشر، نوعية متميزة، مفلحة، فائزة، ظافرة: هم المتقون، فيقول الله “سبحانه وتعالى” عنهم في القرآن الكريم: {أُولَئِكَ}(أُولَئِكَ): هذه الفئة المتقين، {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، فالفلاح هو يقترن بالهدى، (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) في معتقداتهم، في أفكارهم، في ثقافتهم، في أقوالهم، في أفعالهم، في سلوكياتهم، في مواقفهم، في ولاءاتهم، في عدائهم… في كل مسيرة حياتهم (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)، لا يتحركون في مسيرة هذه الحياة لا في الأفعال، ولا في الأقوال، ولا في المواقف، لا في حالةٍ من الانفلات، ولا في اتباعٍ للهوى، ولا في اتباعٍ للمضلين، إنما يتحركون بناءً على هذا الأساس: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}.
ولذلك اقترنوا في مسيرة حياتهم بالفلاح؛ لأن الهدى يقترن به الفلاح، يعني الفوز بالظفر، الفوز بالمأمول، النجاح الحقيقي، الوصول إلى تحقيق الأهداف العظيمة والسامية التي هي أعظم ما ينشده الإنسان ويرجو الوصول إليه، من خيرٍ وسعادةٍ أبدية، ومن عزةٍ وكرامة.
ومصدر الهدى هو الله “سبحانه وتعالى”، الله “جلَّ شأنه” هو مصدر الهداية، هو “جلَّ شأنه” القائل في القرآن الكريم: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}[الليل: الآية12]، هو “جلَّ شأنه” القائل: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}[يونس: من الآية35]، هو “جلَّ شأنه” القائل: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}[آل عمران: من الآية73]، هو “جلَّ شأنه” القائل: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ}[النحل: من الآية9]، ولأنه “سبحانه وتعالى” هو الذي يتولى “سبحانه وتعالى” الذي يتولى هداية عباده أنعم على عباده بالرسول، برسله وأنبيائه، وبالكتب التي أنزلها معهم، والوظيفة الأساسية والرئيسية للرسول والكتاب هي الهداية للعباد، العمل على هداية البشرية، العمل على إنقاذ الناس وهدايتهم؛ ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” عن القرآن الكريم، وهو الكتاب المهيمن الذي احتوى في مضمونه الهداية الإلهية في كل كتب الله السابقة، بما تحتاج إليه البشرية إلى قيام الساعة، منذ نزول القرآن الكريم وإلى قيام الساعة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة: الآية2]، يقول “جلَّ شأنه”: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: من الآية9]، يقول “جلَّ شأنه” عن الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، ورسول الله محمد هو خاتم النبيين، وهو أيضاً وارث كل الأنبياء، حمل هديهم، وهو سيد المرسلين الذي حمل من الكمال البشري ما لم يصل إلى مستواه أي بشرٍ قبله، ولن يصل إلى مستواه أي بشرٍ بعده “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، يقول الله عنه: {وَإِنَّكَ} يعني: الرسول محمد “صلوات الله عليه وعلى آله”، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى: من الآية52]، كما يقول أيضاً يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}[النور: من الآية54].
فالرسول والكتاب الوظيفة الأساسية والرئيسية لهما، والمهمة الواحدة الموحَّدة المندمجة المتلازمة هي الهداية، هي الهداية، فالله أوصل إلينا هداه عن طريق منهجٍ عظيم يتمثل بالقرآن الكريم، وعن طريق قدوةٍ وقائدٍ وهادٍ يهدينا بهذا الكتاب، يعمل على إخراجنا بهذا الكتاب من الظلمات إلى النور، هو رسول الله وخاتم أنبيائه محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم: الآية1].
ورسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله: عندما بعثه الله بالرسالة، وتحرَّك بها، وبلَّغ هذا الكتاب، أوصله إلى الناس، وأنذر به الناس، وبشَّر به المتقين، عندما بُعِثَ بُعِثَ والبشرية في جاهليةٍ جهلاء، الحالة السائدة في الواقع البشري هي الجاهلية، هي حالة القطيعة مع التعليمات الإلهية، الابتعاد عن النور الإلهي، هي الحالة التي سادت فيها في واقع البشر الظلمات بكل ما تعنيه الكلمة: الأفكار الظلامية، السلوكيات الظلامية، المناهج الظلامية، الاتجاهات الظلامية؛ فكانت النتيجة أن يمتلئ الواقع البشري بحالة رهيبة جداً من التظالم، من الفساد، من المنكرات، أن تنحط البشرية عن مقام السمو الإنساني، أن تنتشر المنكرات، أن تغيب الأخلاق، أن تعيش البشرية في حالةٍ من التخبط، لا تنتظم وفق المنهج الإلهي والتعليمات الإلهية، والحالة التي تنفصل فيها البشرية وتكون على قطيعة مع التعليمات الإلهية، مع النور الإلهي، هي حالةٌ توصف بأنها جاهلية، جاهلية، والبشر فيها يعيشون واقعاً ظلامياً بكل ما تعنيه الكلمة؛ ينتج عن ذلك الكثير من المشاكل والأزمات والفتن والمحن، وينشأ عن ذلك الحال الذي يصفه القرآن الكريم بالشقاء، مستوى الأزمات، مستوى المعاناة، مستوى المشاكل تحوِّل حياة البشرية إلى جحيم، إلى شقاء، إلى معاناة رهيبة، وتتفاقم المشاكل، وينمو الضلال، ويتزايد الباطل، ويكثر الظلم، وتزداد المعاناة.
ولذلك عندما تحرَّك رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” برسالة الله “سبحانه وتعالى”، داعياً إلى الله “سبحانه وتعالى”- الرسالة الإلهية التي هي منهجٌ متكامل، ومنهجٌ شامل- أحدث تغييراً كبيراً وعظيماً في واقع الحياة، وامتد هذا الأثر إلى واقع حياة الناس؛ لأن الإنسان إذا صلح في نفسه، إذا زكى في نفسه، إذا اهتدى في مسيرة حياته، وتحرَّك بناءً على التعليمات الإلهية، إذا استبصر بنور الله “سبحانه وتعالى”، إذا حمل المفاهيم الصحيحة، وأصبح حكيماً بالتوجيهات الحكيمة من الله “سبحانه وتعالى”؛ تصلح حياته، الدين هو لصلاح الحياة، الرسالة الإلهية هي لإنقاذ البشر في حياتهم في الدنيا أولاً، ولضمان مستقبلهم الأبدي في الآخرة، للوصول إلى الجنة، والسلامة من عذاب الله، والفوز برضوان الله، وما وعد به الله “سبحانه وتعالى”.
إنَّ الواقع البشري اليوم في الساحة العالمية بكلها مليءٌ بالمشاكل، مليءٌ بالأزمات، ومليءٌ بالمعاناة، وحتى البلدان التي لديها إمكانات مادية كبيرة ولا تعيش المشاكل المادية، هي تعيش مشاكل من نوعٍ آخر، وأزمات من نوعٍ آخر، وأزمات كبيرة تصل بها إلى حالة الشقاء بكل ما تعنيه الكلمة، في الغرب مشاكل اجتماعية كبيرة، مشاكل نتيجة الإفلاس الأخلاقي، ونتيجة الخواء الروحي، ونتيجة الطغيان المادي، تدفع بالكثير إلى الانتحار، تجعل الكثير من الناس لا يعيشون حالة الرضا عن حياتهم ولا عن واقعهم، إنهم يشعرون بالعبثية، باللا هدف، بالضياع، وفي نفس الوقت ينعدم الإحساس بالكرامة التي أرادها الله لهذا الإنسان، للكائن البشري، وفي كثيرٍ من بلدان أوروبا تصل نسبة الانتحار بين أوساط الشباب إلى نسب عالية ومتقدمة وكبيرة ومفجعة، وحالة الشعور بالضياع هي حالة سائدة في المجتمعات الغربية، والمشاكل والأزمات الاجتماعية والتفكك الأسري من أكبر المشاكل التي يعانون منها، ونسبة انتشار الجريمة بكل أشكالها وأنواعها هو بمعدلات كبيرة جداً، وبأرقام تحسب في أمريكا- نفسها- بالدقيقة، يحصل في كل دقيقة كذا وكذا نسبةً أو عدداً من الجرائم، فهل هي إلا حالة شقاء، هل هي إلا حالة شقاء! معدلات الجريمة، الشعور بالضياع، نسبة الأزمات والمشاكل الاجتماعية، كم من المشاكل التي يعانون منها.
أما في مجتمعنا الإسلامي، وفي شعوبنا وبلداننا الإسلامية، فنحن أيضاً نعيش الكثير من المشاكل والأزمات، ونواجه- في نفس الوقت- الكثير من التحديات، منشأ كل هذه المشاكل، والسبب الرئيسي لكل هذه المعاناة التي نعيشها في واقعنا الإسلامي: هو بقدر ما ضيعنا من أسس ومبادئ وتعاليم مهمة جداً في رسالة الإسلام، نحن- بحمد الله- نحافظ على انتمائنا للإسلام كشعوب إسلامية، نؤمن بالله، نؤمن بكتابه، نؤمن برسوله، كذلك الشعائر الدينية هي حاضرة في واقع حياتنا بشكلٍ كبير، نسبة مهمة من الدين حاضرة في واقع حياتنا، ولكن هناك جوانب، هناك أسس، هناك مبادئ يجب أن نستحضرها في واقع الحياة وأن نعود إليها من جديد، كانت هي من الأساسيات في هذا الإسلام، في حركة رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، إنَّ من أهم ما يجب أن نركِّز عليه هو جانبين مهمين:
الأول أن نعرف ما النسبة المحرفة مما قُدِّم باسم الدين، وليس من الدين، مما كُذِبَ به على رسول الله، وليس من رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، مما حسب على الإسلام، وليس من الإسلام، ثم كان ضلالاً بما تعنيه الكلمة، وكان لاتباعه والتمسك به آثار سلبية في واقع الحياة، آثار شقاء، وآثار ضياع، وأن نعرف أيضاً وأن نكتشف الجانب المغيَّب والضائع من هذا الدين، من هذه الرسالة، مما هو من أسسها المهمة التي تصلح الحياة، وتبني الحياة، وتحقق العدل، وتسمو بالإنسان، وتعالج الكثير من المشاكل والأزمات التي نعاني منها في واقع حياتنا، ولذلك يمكن أن تكون هذه المناسبة مناسبةً نستفيد منها ترسيخ هذه المسألة: أن نعود من جديد لمعرفة هذا الهدى، لمعرفة الجوانب التي نحتاج إليها بطبيعة ما نواجهه من تحديات ومشاكل وأزمات، نستطيع أن نفرز وان نحدد المشاكل التي نعاني منها، والتحديات التي تواجهنا، ثم نعرف من خلال هذا الهدى كيف نتعامل مع هذه المشاكل، وكيف نواجه هذه التحديات، وكيف نعالج هذا الخلل، هذا من أهم ما نستفيده من هذه المناسبة المباركة، ما قبلها وما بعدها.
من أهم ما نركِّز عليه من خلال هذه المناسبة وفي الفعاليات التحضيرية ما قبل هذه المناسبة وما بعدها من برامج تكون امتداداً لها: أن نركز على الحفاظ على الأصالة والهوية الإسلامية، ونحن كشعبٍ يمني روي عن رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” أنه قال: (الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية)، نحن معنيون أن نركِّز على الحفاظ على أصالة انتمائنا وهويتنا الإسلامية؛ لأننا نواجه اليوم نوعاً من أخطر الحروب، ومن أخطر أشكال الاستهداف، ذلكم- أيها الإخوة والأخوات- هو الحرب الناعمة.
الحرب الناعمة: هي حرب ضلال، ضلال يستهدف إبعادنا عن هويتنا الدينية، عن هويتنا الإسلامية، حرب بالفكر، بالثقافة، بالمفاهيم الظلامية والباطلة والخاطئة، وسائلها كثيرة، ودعاتها كثر، وهي تتحرك لاستهدافنا من خلال الكثير والكثير من الوسائل. الحرب الناعمة ذات شق تثقيفي، وذات شق إفسادي، ذات شق يستهدف فكر الإنسان، مفاهيمه، نظرته، ثقافته، وذات شق يستهدف زكاء الإنسان، وطهره، وعفافه، وأخلاقه، وقيمه، ونحن اليوم في هذه المناسبة وفي فعالياتها التحضيرية وما بعدها معنيون أن نركِّز بشكلٍ كبير لأن نسعى لامتلاك الوعي اللازم الذي يحصننا وعياً وثقافةً تجاه هذا النوع من الحرب، تجاه هذا الشكل من أشكال الاستهداف.
الحرب الناعمة وسيلة للتضليل تحت عناوين مخادعة، والتضليل عادةً ما يتم بطرق مخادعة، وقد قدَّم الله لنا درساً مهماً كيف هي الحرب الناعمة في أول مشكلة يواجهها الإنسان من هذا النوع من الحرب، وتجاه هذا الشكل من أشكال الاستهداف، في أول حادثة وقعت واجه فيها الإنسان هذه الحرب، هذا الشكل من أشكال الاستهداف مع أبينا آدم “عليه السلام” بعد وجوده وخلقه، يقول الله “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: الآية115]، {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ} الله “سبحانه وتعالى” قدَّم في هدايته لآدم التوصيات والتعليمات اللازمة والمهمة التي تحميه من هذا الخطر الذي يشكِّل خطورةً كبيرةً عليه في واقع حياته، {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} توصيات وتوجيهات مؤكدة وملزِمة وواضحة، وفيها التحذير الكافي، وكانت مشكلة آدم “عليه السلام” كما قال الله عنه: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}، أخطر حالة هي حالة الغفلة، النسيان، عدم الانتباه لهذا النوع من الاستهداف، التباسط للأمور، هذه الحالة خطرة جداً، وستبقى هي الحالة الخطرة علينا في كلِّ زمانٍ ومكان، وعندما يفقد الإنسان العزم، الجهوزية العالية، الوعي الكافي، الانتباه اللازم، اليقظة المطلوبة، في مثل هذه الحالة يكون الإنسان فريسةً سهلة للإيقاع به في هذه الحرب الناعمة، الإنسان إذا تسلَّح بالوعي، باليقظة، بالعزم، بالانتباه، بالاهتمام؛ فهو سيتحصن من الإيقاع به في هذه الحرب الخطرة.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى}[طه: الآية116]، الله “سبحانه وتعالى” كرَّم هذا الإنسان، وأسجد الملائكة لأبينا آدم تكرمةً للوجود البشري، لأبينا آدم، للإنسانية جمعاء، الله يريد لنا الكرامة، يريد لنا الخير، يريد لنا مع الكرامة المعنوية السعادة في حياتنا أيضاً، {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} هناك واحد من الجميع من أولئك الذين وجِّه إليهم هذا التكليف وأمروا بالسجود، هو إبليس أبى وامتنع أشد الامتناع عن السجود لآدم، واستكبر وعادى آدم، وعادى هذا الوجود البشري، {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}[طه: الآية117]، إبليس هو عدوٌ للإنسان رجلاً وامرأة، {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ}،فإبليس هو عدوٌ للإنسان سواءً كان هذا الإنسان ذكراً أو كان أنثى، هو عدو للجميع، وعداؤه يتمثل في سعيه للإيقاع بهذا الإنسان في الضلال، في الغواية، يعني: الحرب الناعمة، الحرب الناعمة: هي حرب إغواء، وحرب تضليل، والهدف منها: إيقاع الإنسان في الشقاء، {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}؛ لأن عملية الإغواء والتضليل هي عملية أثرها في الحياة هو الشقاء، هو أن يشقى الإنسان، أن يهون، أن يذل، أن يخسر الخير، أن يعاني.
{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}[طه: 118-119]، لك في هذه الجنة التي أعطاك الله لتبدأ بها مسيرة حياتك في هذه الأرض كل هذه الرعاية الشاملة، (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا): تتوفر لك كل المواد الغذائية اللازمة، (وَلَا تَعْرَى): تتوفر لك الملابس، جوانب أساسية في احتياجات الإنسان، (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا): يتوفر لك ما تحتاج إليه من الماء والشراب، (وَلَا تَضْحَى): لا تعاني الكد والنصب والتعب الشديد، فتعيش حالةً مستقرة.
فماذا عمل الشيطان؟ {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}[طه: الآية120]، وسيلة الإغواء وعناوين التضليل هي عناوين مخادعة، هي تتوجه إلى الإنسان من جوانب تمثِّل إغراءً لهذا الإنسان، وتأثيراً على مشاعر هذا الإنسان، إبليس عندما وسوس لآدم دخل من خلال هذه العناوين التي تلامس في نفس الإنسان رغبات معينة، (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ): شجرة إذا أكلت منها تعيش للأبد، وتحيا للأبد، ولا تموت نهائياً! (وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى): ملك يبقى على الدوام متجدداً لا ينقطع ولا يبلى! وهكذا هي دائماً العناوين التي يتحرك من خلالها الشيطان وأولياء الشيطان في استهدافنا كمسلمين، كشعبٍ مسلم، وكأمةٍ مسلمة، العناوين التي يحاولون من خلالها الإغواء الفكري والتضليل الثقافي، أو العناوين التي يحاولون أن يؤثِّروا بها من خلال ملامسة الرغبات والشهوات؛ للإيقاع بنا، لإغوائنا، للتضليل لنا، للإفساد لنا، لتضييع القيم والأخلاق من واقع حياتنا.
{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}[طه: 121-123]، الحرب الناعمة- أيها الإخوة والأخوات- بدأت من تلك اللحظة: من اللحظة التي خاطب فيها إبليس آدم وحواء “عليهما السلام” بهذا العنوان المغري والجذاب: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}، بينما كانت النتيجة هي أنهما خسرا كل شيءٍ حتى الملابس، حتى الملابس، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، والنتيجة من تلك اللحظة تحددت لمستقبل البشرية إلى قيام الساعة، من تلك اللحظة إلى آخر إنسانٍ يولد في هذه الحياة هي هذه النتيجة: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه : 123-124].
ولذلك نحن معنيون أن نرسِّخ في انتمائنا لهذا الإسلام العظيم ارتباطنا الوثيق بالقرآن الكريم، التثقف بثقافته، الوعي لمفاهيمه، الاستنارة بنوره، والاستبصار ببصائره، وأن نرسِّخ في واقعنا الاقتداء برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” كقدوة وأسوة وقائد وهادٍ؛ حتى لا نعيش حالة الانفلات، ولا الفراغ، ولا حالة التأثر بمن هبَّ ودبّ، البعض يدخل على مواقع التواصل الاجتماعي يتأثر بأي شيءٍ يطَّلع عليه، بأي شيءٍ، أي عنوانٍ قد يكون عنواناً مغرياً، أخطر شيءٍ على شبابنا وشاباتنا في هذه المرحلة التاريخية في واقع الأمة هو الانفلات والفراغ، إذا لم يعش الإنسان معنى الانتماء الحقيقي للإسلام في التمسك برسول الله، في الاقتداء برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، في الانشداد إلى هذا الرسول العظيم، في التطلع إلى سيرته كما أوردها القرآن، والتمسك بالقرآن الكريم الذي هو المحتوى الشامل والأساس والصادق- والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- للإسلام العظيم، محتوى الإسلام بكله في القرآن الكريم، في كل أسسه ومبادئه، كتاب الهداية.
فتعزيز هذا الارتباط بالقرآن والرسول هو الذي يحمينا ويحصننا تجاه كل حملات الحرب الناعمة، هو الذي سيحفظ لنا كرامتنا، هو الذي يمكن أن نبني عليه حاضر حياتنا ومستقبلها، هو الذي يمكن من خلاله أن نعالج كل مشكلاتنا، وأن نواجه كل التحديات مهما كانت تلك التحديات.
الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” في حركته بالرسالة واجه مشكلات كبيرة وتحديات كبيرة، لكنه نجح في إحداث أكبر عملية تغيير، تغيرت المفاهيم الظلامية في الواقع الذي كان يعيشه العرب، وحملوا هذه الرسالة العظيمة في منهجها، وارتقوا من أمةٍ أمِّيَّة، تعيش حالة الانحطاط الأخلاقي، والإفلاس الإنساني، وتئِدُ البنات، إلى أمة راقية، أمة متحضرة، واحتلوا مركز الصدارة بين كل الأمم، وحملوا رسالة الله، وأشرف مسؤولية، وأقدس قضية، هكذا انتقل بهم الإسلام، وانتقل بهم القرآن، وانتقل بهم الرسول نقلةً عظيمة وقفزةً عملاقة من الحظيظ إلى الصدارة؛ حتى صار المسلم بإسلامه أرقى إنسان يعيش على وجه البسيطة، في وعيه، في ثقافته، في أخلاقه، في قيمه، وحتى كانوا هم من يحملون مشعل الحضارة الحقيقية في واقع البشرية، والأمة الجديرة بقيادة البشرية.
اليوم نحن بحاجة إلى تعزيز هذه الأصالة، وهذا الانتماء، وهذا الارتباط، وأن نجعل من هذه المناسبة، وفي فعالياتها التحضيرية ما قبلها وما بعدها أيضاً، أن نجعل منها محطة لترسيخ هذا الانتماء وهذا الوعي، وتعزيز مسألة التأسي بالرسول، وصدق الله “سبحانه وتعالى” القائل في كتابه الكريم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: الآية21].
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفقنا وإياكم جميعاً للتأسي برسول الله, والاقتداء برسول الله، والتمسك برسول الله، والاهتداء برسول الله، والتمسك بكتاب الله، وأن نعزز ارتباطنا بالرسول وبالقرآن من موقع الاتباع والاقتداء والاهتداء، إنه سميع الدعاء.
وأشكر لكم هذا الحضور…
والسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛