المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ
| محاضرات السيد القائد | 2 رمضان 1441هـ/ الثقافة القرآنية:-
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
نستمر في الحديث على ضوء قول الله -سبحانه وتعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: من الآية183]، وسبق الحديث عن حاجتنا إلى التقوى في هذه الحياة؛ للوقاية من كل ما تسببه أعمالنا السيئة، وأعمال غيرنا من المجتمعات البشرية في واقع هذه الحياة من نتائج سيئة، ومن عواقب وخيمة، ومن عقوباتٍ عاجلة من الله -سبحانه وتعالى- فالإنسان بحاجةٍ إلى التقوى، بحاجة إلى أن يكون حذراً وعاملاً بما يقيه من عذاب الله -سبحانه وتعالى- ومن مقته وسخطه، في كلما هو عقوبةٌ على الأعمال السيئة، ونتيجةٌ لها.
ومع ذلك نحن في أمسِّ الحاجة إلى التقوى للآخرة، للحياة الآخرة، ونحن كمسلمين نؤمن بيوم القيامة، نؤمن بالحساب وبالجزاء، وبالجنة وبالنار، ونؤمن بالحياتين: الأولى والآخرة، ومن الواجب أن يسعى الإنسان ليرسِّخ استشعاره بأنَّ هناك بعد هذه الحياة الحياة الآخرة، وأنه خُلِقَ لحياتين بينهما فاصلٌ قصيرٌ هو الموت، الحياة الأولى من هاتين الحياتين هي حياةٌ قصيرة بأجلٍ محدد، وهي حياةٌ ممزوجةٌ بالخير والشر، وبالسراء والضراء، ليس فيها راحةٌ إلَّا مع تعب ومع منغصات، وللأسف الكثير من الناس يتجه في كل ذهنيته، في كل اهتماماته، في كل ما يركِّز عليه، في كل أعماله، نحو الاهتمام بهذه الحياة، ومتطلبات هذه الحياة، وحاجة هذه الحياة، وأصبح الواقع السائد للكثير من الناس مع ظروف هذه الحياة ومشاكلها، وأزماتها، وهمومها، ومتطلباتها، أن يسيطر على ذهنيتهم التركيز كلياً نحو هذه الحياة، والغفلة إلى حدٍ كبير عن الحياة الأخرى، وهذه حالةٌ خطيرةٌ جدًّا؛ لأنها ستنسي الإنسان الإستعداد لتلك الحياة، والتي هي على العكس من هذه الحياة، هذه الحياة محدودة، مؤقتة، مؤجلة، ممزوجةٌ بالخير والشر، والسراء والضراء؛ أمَّا تلك الحياة فهي دائمةٌ وأبديةٌ، ولا نهاية لها، ولا أجل فيها إلى مرحلةٍ معينة، وخيرها خالصٌ وعلى أرقى مستوى، والشر فيها خالصٌ وعلى أشد مستوى؛ ولذلك هي حياةٌ مهمة، وهي أيضاً نتيجةٌ لأعمال الإنسان هنا، مصيره يتحدد هناك على ضوء أعماله هنا، غفلة الإنسان عن الحياة الأخرى وعمَّا فيها من الحساب والجزاء أمرٌ خطيرٌ جدًّا على الإنسان.
ونحن إذا جئنا لنقارن بين هاتين الحياتين: بين الأولى والآخرة، سنجد أنَّ علينا أن نركِّز وأن نجعل الأولوية والاهتمام الأكبر في حساباتنا للحياة الآخرة، وهذه هو الشيء الصحيح والبديهي إذا تأمل الإنسان ولو بعض تأمل: حياة محدودة ومؤقتة، وبأجلٍ محدود، ولا تدري إلى متى، كلٌ منا لا يدري إلى متى سيعيش في هذه الحياة، ونرى في واقع حياتنا الكثير من الناس ممن يرحلون من هذه الحياة وهم في مقتبل العمر، وهم في مرحلة الشباب، ونرى أيضاً أنَّ الإنسان مهما عمِّر في هذه الحياة، فهو يرى ما قد مضى من عمره وكأنه حلم، وكأنه وقتٌ قصير سرعان ما ينقضي، ما أسرع الأيام في الشهور، وما أسرع الشهور في السنين، وما أسرع السنين في العمر، تنصرم الأعوام وتنقضي السنون وهكذا عاماً بعد آخر، ولا يرى الإنسان نفسه إذا عمِّر إلَّا وهو في مرحلة الهرم والشيخوخة، وقد انقضى عنه شبابه، وانقضت تلك الأيام من حياته التي كان يمتلك فيها النشاط والصحة والقوة، وأصبح يعيش حالة الضعف، وحالة العجز، وحالة التعب والضعف في كل شيء: في قواه، وفي جسده، وفي تركيزه، وفي مداركه… إلى غير ذلك، وحتى في حواسه، حياة الخير فيها والأحوال فيها أحوالٌ متقلبة، قد يأتي الخير ثم يعقبه الشر، تأتي السراء تعقبها الضراء، ومشوبةٌ بالكثير الكثير من المنغِّصات، لا يكاد يمر يومٌ واحد إلَّا وفيه منغِّصات، من هذا يأخذ الإنسان العبرة، عندما تعيش حالة الضراء والغم النفسي، عليك أن تتذكر أنَّ الغم، وأنَّ الضر، وأنَّ الألم في الحياة الآخرة هو للأبد، هو للدائم، عندما تحس بالألم وبالوجع، وعندما تحس بالغم النفسي، مع ذلك تذكَّر كيف لو كان ذلك لملايين السنين.
الإنسان إذا استمر به الألم لأوقات معينة، لأيام أو لشهور أو لسنوات كيف يتعب، كيف يحس بالضجر الشديد، والإعياء الشديد، والإرهاق الشديد، والعناء الشديد، ويشعر بالضيق الشديد، ويسعى للخلاص من ذلك، يبحث عن كل الوسائل التي تساعده على الخروج من تلك الحالة، إذا عاش الإنسان الشدة في هذه الحياة، شدة البؤس، شدة الفقر، شدة الحاجة، كيف يضيق، كيف يتعب، كيف يسعى للخروج منها، كيف يشعر بالغم النفسي في أوقاتٍ مستمرة ومتتابعة، لدرجة أنَّ البعض يعاني من السهر، والقلق، والتوتر النفسي، والانزعاج الشديد، والتعب النفسي والجسدي، حالة الضجر كذلك، عندما يعيش الإنسان حالة الضجر والضيق، وحسب التعبير المحلي: [الضبح]، كيف لو استمر لك ذلك ملايين السنين، تفكر في ذلك، تأمل؛ لأن الحياة الآخرة الشر فيها والألم فيها هو على أشد مستوى، وهو نفسيٌ وجسديٌ، ولا نهاية له، الشر هناك في الآخرة شرٌ دائمٌ وأبدي، ولا لحظة واحدة في جهنم تعيش فيها شيئاً من الراحة، أو قليلاً من الخير، ولا لحظة واحدة، إنما هو عذابٌ دائم، شرٌ دائم، ضيقٌ دائم، عذابٌ نفسيٌ دائم… وهكذا.
نأخذ العبرة في المقارنة بين هذه الحياة الأولى والحياة الآخرة، هذه الحياة بأجلٍ محدد، على مستوى حياتك أنت كشخص كفرد، لك أجل، إذا جاء هذا الأجل، ليس هناك أي فرصة إضافية نهائياً، ولا لساعةٍ واحدة، الله -جلَّ شأنه- يقول في القرآن الكريم: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المنافقون: الآية11]، والكثير بلا شك من الناس يأتي هذا الأجل وهم على غير استعداد، ويأتي مفاجئاً، يفاجئهم ويفاجئ الآخرين من أقربائهم وأصدقائهم، وهم فيما كانوا عليه منشغلين إما كلياً أو إلى حدٍ كبير كأولوية في شؤون هذه الحياة والاهتمامات المتعلقة بهذه الحياة، والتي هي حياة بسيطة ومؤقتة.
على مستوى الأمم والأجيال لكل أمةٍ أجل، يقول الله -جلَّ شأنه-: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}[الحجر: الآية5]، نرى بعد مرحلة معينة وقد انقضى جيلٌ كامل، جيلٌ بأكمله لم يعد منه أحد، لو يراجع الإنسان تاريخ قرية من القرى في الريف، أو حيٍ من الأحياء، أو حارةٍ من الحارات في المدينة، سيرى كيف أنه ما قبل خمسين عاماً، ما قبل ثلاثين عاماً، إلى مستويات معينة، أو عقود معينة من الزمن، وقد انقضى جيلٌ بأكمله، بقي الأبناء، ورحل الآباء والأجداد، وهكذا على مستوى الوجود البشري بكله، هو مؤقت منذ خلق الله آدم أبا البشر وزوجه حواء الله -سبحانه وتعالى- عندما خلق البشر جعل لهم أجلاً معيناً، مثلما خلق الله أول إنسان، هناك من سيولد من البشر وهو آخر إنسان، الإنسان الأخير، الله أعلم من هو، ما سيكون اسمه، في أي بلدٍ سيكون، الإنسان آخر واحد، مثلما خُلِق الإنسان الأول سيخلق الإنسان الأخير، والله -جلَّ شأنه- عندما خلقنا في الأرض، وخلق أبانا آدم وزوجه حواء، قال -جلَّ شأنه-: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، إلى زمنٍ محدد، إلى وقتٍ معين، ثم تنتهي هذه الحياة.
وهكذا نجد أنَّ هذه الحياة التي هي مؤقتة، وإلى أجلٍ معين، وأنَّ القيامة آتية، الموت الذي هو الفاصل، الإنسان سيستشعره فاصلاً قصيراً جدًّا، فاصلاً قصيراً، هكذا الشعور عند البعث، يوم يبعث الله البشر يستشعرون وكأن المدة التي قضوها من حين موتهم إلى حين بعثهم لم تكن إلَّا كساعةٍ واحدة من ساعات هذه الحياة، أليست حالة قصيرة جدًّا؟ مدة زمنية قصيرة في شعور الإنسان وإحساسه، وفي وجدانه وتقديره.
لاحظ إذا حاولت أن ترتاح قليلاً وتنام لبرهةٍ بسيطة، لساعة، فتقول لقريبك أو لزميلك أو لأهلك أن يوقظوك بعد ساعةٍ من النوم، حينما تستيقظ ما قبل أن تنام، وبعدما استيقظت في تلك الساعة وخلال تلك الساعة، ألست تستشعرها مدةً قصيرةً جدًّا؟ هكذا هو الحال، ولذلك يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}[الروم: من الآية55]، إلى حد أنهم يقسمون لشدة هذا الشعور، وقوة هذه المشاعر، وكأن المسألة فقط كأنها ليست إلا ساعةً واحدة، ولذلك يقسمون على ذلك.
هكذا هو الحال، الإنسان الذي كان غافلاً، ومسوِّفاً، ومهملاً، ومستهتراً سيتفاجأ، وسيرى كيف أن الأمور متسارعة جدًّا، القيامة نفسها آتية، الحياة الأخرى آتية.
الإنسان قبل البعث، عندما يأتيه الموت، والموت هو بداية الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- أول ما يستشعره هو أنَّ هذه الحياة كانت قصيرة، وأنَّ الموت قد أتى سريعاً، وأنَّ نهاية الحياة هذه أتت بشكلٍ مفاجئٍ له، ويتحسر في تلك اللحظات على العمل، ويدرك أنَّ أهم شيءٍ على الإطلاق هو العمل والاستعداد للحياة القادمة، التي هي حياةٌ أبديةٌ ودائمةٌ ولا نهاية لها، ولا أجل فيها، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}[المؤمنون: الآية99]، يطلب الرجعة إلى هذه الحياة، يطلب أن يعطى فرصةً إضافية، أن يضاف إلى عمره ولو القليل، لماذا؟ لماذا يريد الرجوع؟ لماذا يريد الفرصة الإضافية؟ لماذا يريد التمديد في مدة عمره؟ {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون: من الآية100]؛ لأنه أدرك أنه قصَّر في العمل الصالح، العمل الصالح الذي هو الرصيد الأساسي لمستقبلك في الآخرة، الذي لن ينفعك في مستقبلك هذا الآتي، مستقبلك القادم، مستقبلك الدائم، لا ينفعك إلَّا هو، ولا نجاة لك إلَّا به، ولا تفوز إلَّا به.
ولذلك يدرك الإنسان أهمية العمل الصالح، ومدى الخسارة الفادحة إذا أضاع هذه الحياة البسيطة المحدودة المؤقتة، التي هي بأجلٍ محدود، والتي هي مليئة بالمنغصات مهما بذل فيها من جهد، مهما أعطاها من اهتمام، هي مليئة بالمنغصات والمتقلبات والمتغيرات، ويرى أنه ذاهبٌ إلى تلك الحياة الأبدية والدائمة، ولكنه لم يتزود لها، ولم يستعد لها بالعمل الصالح، فتكون حسرته كبيرة.
القيامة آتيةٌ لا ريب فيها وقريبة، الله -جلَّ شأنه- قال في القرآن الكريم: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر: الآية1]، ونحن أمة محمد، والناس في آخر الزمان يفترض أنهم أكثر خوفاً من الله -سبحانه وتعالى- وأكثر استشعاراً لقرب القيامة؛ لأنها اقتربت أكثر من أي وقتٍ مضى، ومجيئها هو بغتة، ومفاجئٌ للناس، وعلى نحوٍ حاسم، لا فرص إضافية، ولا أوقات يمكن فيها أن يتلافى الإنسان، أو تتلافى المجتمعات البشرية ما هي فيه من التقصير، ما هي فيه من الإهمال، ما هي فيه من الغفلة، فتتجه بالمبادرة إلى أعمالٍ صالحة تكون فيها نجاتها، لا، الله -سبحانه وتعالى- قال عن القيامة: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}[الأعراف : 187]، وعندما تأتي بغتة يتفاجئ الناس بها، وتأتي بحالة تدمير كلي لهذه الأرض ولهذه الحياة، وعلى نحوٍ حاسم، الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه الكريم: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}[النجم: 57-58]، القيامة هذه الآتية لماذا ستأتي؟ الموضوع الرئيسي فيها ما هو؟ يوم القيامة لماذا هو؟ لأنه للحساب، للجزاء.
الإنسان إذا آمن بالجزاء، واستشعر الجزاء، وإذا آمن بيوم القيامة، وبالحساب، وبالجنة، وبالنار، سيدرك أهمية ما يعمل، قيمة ما يعمل، سيدرك أيضاً أنَّ أي معصيةٍ لله- مهما كانت مغرية- ليست في مستوى أن تتورط من أجلها وتوقع نفسك في هذا الهلاك الكبير، والخسران المبين العظيم، سيدرك أيضاً قيمة أي عملٍ يقيه من عذاب الله -سبحانه وتعالى- يحقق لنفسه به الأمن يوم القيامة، سيعيش الخوف هنا في الدنيا، ليتقي الله، ليحذر، ليهتم بالأعمال الصالحة والنافعة والمفيدة، سيتوفر له الدافع الكبير لتقوى الله -سبحانه وتعالى- فيعمل ما فيه رضا الله، ويتجنب ما يسبب سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله، ومقت الله.
مسألة الإيمان بالحساب والجزاء مسألةٌ مهمةٌ جدًّا، سيدرك الإنسان أنَّ كل مصيره مرهونٌ بعمله، الله -جلَّ شأنه- قال في كتابه الكريم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}[النجم: 39-41]، لا بدَّ من الجزاء، ما تعمله ولو بمثقال ذرةٍ من الخير، أو مثقال ذرةٍ من الشر، لا بدَّ من الجزاء عليه، ما تقوله من الخير، أو تقوله من الشر، ستلقى عليه الجزاء، مسألةٌ مهمة يجب أن يستشعرها الإنسان وأن يستحضرها، وأن يستشعر قرب لقاء الله -سبحانه وتعالى-؛ حتى يتهيَّأ، حتى يدرك أهمية هذا المستقبل الذي هو قادمٌ ولا بدَّ منه، هذه الحياة هي متاع، لو نلت فيها ما نلت من متاعها، من خيراتها، من رغباتك فيها، هي محدودة، ومع المنغصات وتنتهي، تنتهي، لكنَّ ما هو قادمٌ في الآخرة أمرٌ عظيمٌ جدًّا، يستحق منك الاهتمام المستمر والجد المستمر.
ولذلك عندما نتأمل في القرآن الكريم ونجد أنَّ أحداث يوم القيامة هي أحداثٌ مهولة، هذا بحد ذاته يبين لنا كيف أنَّ عملية الحساب- وهي ما قبل الجزاء- هي عملية حاسمة، لا مجال فيها للمجاملة، لا مجال فيها للرشوة، لا مجال فيها للوساطات، لا مجال فيها للحيل، أن يأتي الحساب وأن تأتي مرحلة الحياة الآخرة بتلك الأحداث المهولة في يوم القيامة، من دمارٍ لهذه الأرض، وخرابٍ لها، ودكٍ لها، من نهايةٍ لكل مظاهر الحياة عليها: بحارها، وأنهارها، وأشجارها، ما على هذه الأرض من القرى، من المدن، من المساكن، بل ما عليها من الجبال، بكلها تدك وتنتهي، الله -جلَّ شأنه- يقول في القرآن الكريم وهو يتحدث عن يوم القيامة: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة: 13-15]، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ}، هو الحدث الرهيب الذي به تقوم القيامة: النفخة في الصور، {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}، هذه نفخة الدمار لهذه الأرض ولهذه الحياة، النفخة التي يموت فيها كل الذين لا يزالون أحياء حينئذٍ على وجه الأرض، بل حتى في السماوات، {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}، واحدة فقط، في ضربةٍ قاضية وحاسمة، ليست عبارة عن أحداث متسلسلة، وأحداث تبقى فيها فراغات من الزمن، وفرص يستغلها الإنسان، لن تأتي المسألة أن يأتي التدمير الجزئي في بقعةٍ أو ناحيةٍ محدودةٍ من الأرض، ثم تبدأ هكذا من منطقة تتنقل إلى منطقة أخرى، لا، حتى نقول: [سيستغل البعض الفرصة]. مع أنَّ البعض حتى لو كانت على هذا النحو لما استغلوا الفرصة، المسوِّفون هم دائمون في تسويفهم، دائماً ما يتأخرون، ودائماً ما يغفلون، ودائماً لا يبالون حتى يأتي الدور عليهم، هذه حالة المسوِّفين.
{نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}، فتكون ضربةً حاسمةً قاضية، لا يمكنك فيها أن تعلق الأمل أنك ستتوب، ستصلح، ستهتم بالأعمال الصالحة، سترجع إلى الله -سبحانه وتعالى- في وقتٍ معين قبل أن تصل أحداث القيامة إلى بلدك، أو إلى وطنك، أو إلى قريتك، أو إلى مدينتك، إنَّ كل الأرض بكل ما عليها من الجبال ستدمر عند هذه النفخة الواحدة بدكةٍ واحدة أيضاً، {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة: الآية14]، واحدة فقط، دكة واحدة تنهي هذه الأرض، وتنسف ما عليها من الجبال، تبخِّر ما عليها من البحار، بل إنَّ هذه البحار تستعر، تستعر في قيعانها بالنيران، ويتبخر ما فيها من المياه، وتتغير كل المعالم على وجه هذه الأرض، كلها تدمَّر تدميراً كلياً، {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}[طه: 105-107]، هذه النفخة الأولى، هذه الأحداث الرهيبة والمهولة مع ما هناك من خسوف، من تكويرٍ للشمس، من نهايةٍ للقمر، من دمار لهذه الحياة تدميراً كلياً.
ثم تأتي بعد ذلك النفخة الأخرى، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: الآية68]، النفخة الأخرى هي كذلك حدثٌ رهيبٌ وهائل، يبعث الله به كل الأموات، يبعث كل البشر دفعةً واحدة في لحظةٍ واحدة، {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، يقوم كل البشر وقد عادت إليهم الحياة من جديد إلى واقعٍ جديدٍ على ساحة الأرض في ساحة الحشر والحساب.
الحضور إلى ساحة الحساب وبعدها إلى الجزاء، سيكون حضوراً إجبارياً، لا يمكن لأحدٍ أن يمتنع، لا يمكن لأحدٍ أن يتعنت، لا يمكن لأحدٍ أن يحتمي بأي وسيلةٍ من الوسائل، لن يأتي أحدٌ ومعه أنصارٌ أو جيوشٌ، ولن يأتي أحدٌ وهناك وساطات تتوسط له؛ حتى لا يدخل إلى مرحلة الحساب وبعدها الجزاء. الكل سيأتي بهم الله في ذلك اليوم للحساب أولاً وللجزاء ثانياً، كل فردٍ يتم إحضاره إلى تلك الساحة، لا يمكن لأحدٍ أن يختفي، ولن يُنسى أحد، ولا غفلة عن أحد، {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس: الآية53]، صيحة واحدة فإذا بالكل وقد أحضروا للحساب، وكل شخصٍ يحضر ويرى وكأن التركيز كله عليه، كأن كل أحداث القيامة تدور على رأسه.
مع كثرة الجمع وقد أحضر كل البشر، ليس هناك غفلة عن بعض، وتركيز على بعض، ولم ينتبهوا للبعض الآخر، وحاول الإنسان أن يضيع في معمعة ذلك الإجتماع الرهيب والهائل، وأن يختفي ضمن تلك الأعداد الهائلة والكثيرة من البشر. لا، كل واحد يرى التركيز عليه بشكلٍ كبير، يرى المتابعة له لحظةً بلحظة، يرى وكأن أحداث القيامة كلها تتجه إليه هو، ولذلك يقول الله -سبحانه وتعالى-: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم: 93-95]، كلٌ يأتي لوحده، لا يجد أحداً يعينه، ولا يقف إلى جانبه، ولا يقدِّم له أي خدمة، ولا يتحمل عنه أي عبئ، ولا يتضامن معه بأي شيء، ولا يملك له أي نفع، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار: الآية19]، {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}[لقمان: من الآية33]، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس: الآية37]، كل إنسان يأتي في حالةٍ فردية، يرى نفسه وكأنه هو المعني رأساً، وكأنه هو المقصود أكثر من غيره، وكأن كل التركيز عليه.
لتبدأ بعدها مرحلة الحساب، يُجمَع الخلائق بكلهم، وينظَّمون تنظيماً دقيقاً ومحسوباً، لتبدأ عملية الحساب، والموضوع الرئيسي هو العمل، العمل الذي سيترتب عليه كل شيء، العمل الذي كنا نستهتر به في هذه الحياة، كم من الأعمال السيئة يستهتر بها الإنسان، يتهاون بها الإنسان، وما من عملٍ سيءٍ- مهما كان مغرياً- يستحق أن تتورط من أجله لحظةً واحدة في نار جهنم، يستحق أن تتجرع بعده مرارة الحسرة والندامة الشديدة، والعذاب النفسي يوم القيامة.
نكتفي بهذا المقدار…
ونستكمل- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة الحديث عن مرحلة الحساب على ضوء بعضٍ من الآيات القرآنية المباركة.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يهدينا بكتابه الكريم، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛