المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1443هـ 2022م
| محاضرات وخطابات السيد القائد | 13 رمضان 1443هـ الثقافة القرآنية:
المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 13 رمضان 1443هـ 2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا إنك، أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
يقول الله “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}[فصلت: 30-32].
ويقول “سبحانه وتعالى”: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف: 13-14].
الاستقامة عنوانٌ أساسيٌ من أهم العناوين، والجميع مأمورٌ بها في القرآن الكريم، يتوجه الأمر للجميع بأن يستقيموا: الأنبياء، والمؤمنون، والمجتمع البشري بكله، ويترتب عليها ما وعد الله به عباده المؤمنين في عاجل الدنيا وفي آجل الآخرة، ولذلك أتى في القرآن الكريم الأمر من الله “سبحانه وتعالى” لخاتم أنبيائه وسيِّد رسله محمد “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” بالاستقامة، في قول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}[هود: 112-113].
أيضاً ورد في القرآن الكريم فيما أخبر الله به من أمره لنبيه موسى “عليه السلام”، ولأخيه نبي الله هارون “عليهما السلام”، بعدما دَعَوا الله على فرعون وقوم فرعون، قال تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[يونس: الآية89].
ثم أيضاً يأتي الأمر للمجتمع البشري، للناس جميعاً بأن يستقيموا، في قول الله “سبحانه وتعالى” مخاطباً لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله”، فيما يعلِّمه أن يبلِّغه وأن يخاطب به الجميع: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}[فصلت: الآية6].
الاستقامة لابدَّ أن تقوم على الأساس العظيم والأساس المهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، وفي قوله تعالى مخاطباً لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}، هذا أساسها الذي تقوم عليه.
في الآيات المباركة التي بدأنا الحديث بها: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وهم يعون بما تدل عليه، وما تفيده مقولتهم هذه.
{قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، (رَبُّنَا اللَّهُ) الذي نعبده، الذي نتولاه، الذي نعبِّد أنفسنا له، فنضبط مسيرة حياتنا ضمن وعلى أساس توجيهاته وتعليماته، وضمن ما يأتينا من خلال هديه “سبحانه وتعالى”.
(رَبُّنَا اللَّهُ) الذي نعبده، فنمتثل أوامره، ونطيعه فيما يأمرنا به، وننتهي عما نهانا عنه.
(رَبُّنَا اللَّهُ) الذي نثق به، نعتمد عليه، نتوكل عليه، نخشاه ولا نخشى غيره، نخاف من عقابه، نرغب فيما وعدنا به.
(رَبُّنَا اللَّهُ) “سبحانه وتعالى” الذي نسير في حياتنا على أساس هديه، ووفق أمره، هذه المقولة لها هذا المعنى، لها هذا المدلول، لا تعني فقط مجرد الإقرار بأننا عبيدٌ لله “سبحانه وتعالى”، ثم لا نسير في حياتنا بناءً على ذلك، لا نلتزم في مسيرة حياتنا، في أعمالنا، في مواقفنا، في تصرفاتنا، في ولاءاتنا، في عدائنا، بناءً على ذلك.
إذا جئنا لتصنيف الواقع البشري تجاه هذه المسألة، فسنجد الناس على أصناف:
صنفٌ منهم ممن يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، وهم كثير، ولكنهم يتجهون في واقع حياتهم بعيداً عن ذلك، لا يستقيمون وفق ما يعنيه قولهم (رَبُّنَا اللَّهُ)، لا يستقيمون على هذا الأساس، (رَبُّنَا اللَّهُ) فنطيعه، فنتولاه، فنكون من حزبه، من أوليائه، من جنوده، (رَبُّنَا اللَّهُ) فنتقبل هديه، نستجيب له فيما يأمرنا به، فيما يدعونا إليه، فهم لا يستقيمون فيما يعنيه قولهم (رَبُّنَا اللَّهُ)، لا يستقيمون وفق ذلك، لا يسيرون في حياتهم على أساس ذلك.
يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، ثم يتجهون في واقع حياتهم، في أعمالهم، في مواقفهم، في تصرفاتهم، في ولاءاتهم، في عداواتهم، بعيداً عن هدي الله، بعيداً عن أمر الله، بعيداً عن تعليمات الله، ولا يهمهم مسألة حلالٍ من حرام، ولا حقٍ من باطل، والذي يحكمهم ويؤثِّر عليهم في مسيرة حياتهم، في اهتماماتهم، في أعمالهم، في مواقفهم، في تصرفاتهم، في ولاءاتهم… وغير ذلك، الذي يحكمهم ويؤثِّر عليهم هو هوى أنفسهم، أهواؤهم، أو أيضاً أهواء غيرهم، يتجهون مع الآخرين فيما يهواه الآخرون، على غير بيِّنةٍ من أمرهم، ولا هدىً من ربهم، والكثير من الناس هم هكذا: يتحركون بعيداً عمَّا يعنيه قولهم (رَبُّنَا اللَّهُ)، فالكثير يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، لكنهم لا يستقيمون وفق ما يعنيه ذلك، وهذه مسألة واضحة في شأن الكثير، وفي واقع الكثير من الناس.
هناك من الناس أيضاً من يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، وينطلقون عملياً على أساس هذه المقولة، على أساس قولهم هذا، وقد تكون انطلاقتهم يشوبها الكثير، ليست استقامةً خالصةً متكاملةً وفق هدي الله، وفق أمر الله، وفق تعليمات الله، وفق هدي الله وكتابه، تشوب انطلاقتهم الكثير من الشوائب المؤثرة سلباً، وقد تكبر هذه الشوائب في مرحلة من المراحل، عندما يواجهون اختباراً معيناً، فينحرفون، فهم يستقيمون لبعض الوقت، إلى بعض المراحل، وقد يتجاوزون مراحل معينة، ولكن لمَّا كانت استقامتهم فيها البعض من الاعوجاج، فيها البعض من المؤثرات السلبية، ولم تتكامل بمعالجة تلك الشوائب وتنقيتها، كان لها تأثيرها عليهم في مرحلةٍ من المراحل، يأتي فيها الاختبار من الله “سبحانه وتعالى” الذي يفرز الإنسان، يفرز الناس، ويكون له أهميته الكبيرة، في أن يتبين من هو الذي ينطلق الانطلاقة المتكاملة، ويستجيب لله “سبحانه وتعالى” الاستجابة التامة، التي يتنقى بها، يتطهر بها من تلك الشوائب، والترسبات الخطيرة السلبية، التي تؤثر على نفسية الإنسان، فلا يستقيم إلى نهاية المطاف، إلى نهاية المشوار، وهذه حالة واقعية، وكثيرةٌ أيضاً.
كثيرٌ من الناس، ممن ينطلقون، ويتفاعلون، ويستجيبون، إلى مرحلةٍ معينة، ثم يتغيرون وينحرفون، ويخرجون عن خط الاستقامة، فيتغيرون بشكلٍ تام، ويتجهون اتجاهاً آخر، حصلت هذه على مرِّ التاريخ، ولها نماذجها الكثيرة على مرِّ التاريخ، وتحصل في كل زمن، وتحصل في كل مرحلة، في كل مسيرةٍ للحق، يحصل أنَّ البعض لا يستقيمون، وأنَّ البعض ينحرفون في نهاية المطاف، ويخرجون عن خط الاستقامة، سنتحدث- إن شاء الله- عن هذا على نحوٍ من التفصيل.
والبعض يقولون: (رَبُّنَا اللَّهُ)، يعون ما تفيده هذه العبارة المهمة، ما تفيده مقولتهم هذه، فهم يقولونها عن وعي، وبإيمانٍ راسخ، ثم ينطلقون على أساسها في مسيرة حياتهم، فيستقيمون على الصراط المستقيم، يستجيبون لله “سبحانه وتعالى”، يتجهون بوعي، بصدق، باهتمام، باستجابةٍ متكاملة وفق هدي الله “سبحانه وتعالى”، فيأخذون بأسباب التوفيق من الله “سبحانه وتعالى”، ويستمرون مهما واجهوه في طريقهم من المخاوف، والتحديات، والأخطار، فهي لا تثنيهم، ففي قولهم: (رَبُّنَا اللَّهُ)، في قولهم هذا ما يُثَبِّتَهُم:
- ما يُثَبِّتَهُم عند كل المخاوف، أمام كل الأخطار، أمام كل التحديات.
- وأيضاً عند الرغبات، عند الأهواء، في مواجهة الأهواء، في مواجهة الشهوات، سواءً على المستوى المعنوي، أو على المستوى المادي، ما يواجهه الإنسان من طموحات، من رغبات، من أهواء، تتعلق بالجانب المعنوي، أو تتعلق بالجانب المادي.
- حتى في مراحل التمكين عندما يُمَكِّنهم الله، يُمَكِّن لهم في أرضه، في مراحل النصر والتأييد لا تتغير نفسياتهم، ولا تتغير اهتماماتهم، ولا تتغير توجهاتهم، هم على ما هم عليه من قبل ذلك في إقبالهم إلى الله “سبحانه وتعالى”، في ثبات توجهاتهم الصحيحة والسليمة، واهتماماتهم الصحيحة والسليمة، لا يتغيرون.
- ولا يتغيرون أيضاً تجاه المشاكل والتعقيدات التي قد يواجهونها وهم في الطريق، وهم يواصلون العمل، كم يواجه الإنسان من التعقيدات، من المشاكل، من العوائق، لكن ذلك لا يؤثر عليهم.
انطلاقتهم الصادقة الواعية على أساس قولهم: (رَبُّنَا اللَّهُ)، التي استشعروا منها بشكلٍ تام عبوديتهم المطلقة لله “سبحانه وتعالى”؛ وبالتالي إذعانهم التام لأمر الله، استجابتهم الكاملة لتوجيهات الله، ولتعليمات الله “سبحانه وتعالى”، ولذلك فهم يواصلون، لا يتغيرون، لا يخرجون عن خط الاستقامة، ولا يتغيرون عن نهج الاستقامة مهما كانت المؤثرات، مهما تنوعت المؤثرات السلبية، التي تصرف الكثير من غيرهم.
المخاوف، والتحديات، والأخطار، والصعوبات، تصرف البعض؛ الإغراءات، والأطماع، والأهواء، تصرف البعض الآخر، البعض من الناس قد يتجاوزون مرحلة الصعوبات والمخاوف والتحديات والأخطار، ولكنهم يسقطون في امتحان الأهواء، في امتحان التمكين، في امتحان الرغبات، عندما تصبح المسألة هناك ذات أهمية بالنسبة لذوي الهوى (هوى النفس)، فيما يتهيَّأ لهم من المناصب، من المقامات، من الإمكانات المادية… من غير ذلك، البعض يسقط، لا يتحمل تجاه ذلك، يصبح المنصب بالنسبة له أهم من كل شيء، يصبح هو المسألة الرئيسية الأساسية التي سيبني عليها حتى مسألة أن يواصل وأن يستمر، أو أن يتوقف.
فالذين يواصلون على أساس ما تعنيه العقيدة المهمة والمبدأ العظيم: (رَبُّنَا اللَّهُ)، ينطلقون فلا يتغيرون مهما كانت المؤثرات، هم الذين يصلون- في نهاية المطاف- لتحقيق ما وعد الله به، والفوز بما وعد الله به “سبحانه وتعالى” في الدنيا وفي الآخرة، وفي الآخرة: الفوز العظيم، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}.
طريق الاستقامة وفق هدي الله وفق تعليمات الله، وفق توجيهات الله، هي طريقٌ عظيمةٌ، وجذَّابةٌ، وهي الخيار الصحيح الذي يتحرك الإنسان في مسيرة حياته على أساسه، فيها كل ما ينشدّ إليه الإنسان بفطرته: الحياة الطيِّبة، الحياة الكريمة، الحياة بعزةٍ وشرف، الحياة التي تحظى من خلالها بكرامتك الإنسانية الحقيقية، الحياة التي تستثمر فيها كل جهدك، وكل طاقاتك، وكل قدراتك فيما فيه الخير الحقيقي لك، وتؤمِّن به مستقبلك الأبدي عند الله “سبحانه وتعالى” في الآخرة.
وفيها أيضاً ما يساعد الإنسان على أن يواصل، على أن يثبت، على أن يستقيم، على ألَّا ينحرف… فيها الكثير والكثير مما يساعد على ذلك:
أول ما في هذه الطريق، هو: الصلة الوثيقة بالله “سبحانه وتعالى”، فأنت عندما تؤمن وتعي بمدلول قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}، فتقول: (رَبُّنَا اللَّهُ) مؤمناً بذلك، مستوعباً لما يعنيه ذلك، ومرسِّخاً لما يعنيه ذلك في وجدانك، في نفسك، كعقيدةٍ، ومبدأ، وشعورٍ إيمانيٍ راسخٍ، وتنطلق على هذا الأساس، وفق هديه “سبحانه وتعالى”، وفق توجيهاته، وفق تعليماته.
فقولك (رَبُّنَا اللَّهُ)، الذي يجعلك متَّجهاً إلى الله تعالى، تعتمد عليه، تخشاه وترجوه، وترغب فيما عنده، تثق به كل الثقة، وتتحرك على أساس وعيك وإيمانك وشعورك بعبوديتك المطلقة له “سبحانه وتعالى”، فهذه الصلة بالله “سبحانه وتعالى” (الصلة الإيمانية) لها أثرها الكبير عليك في مواجهة كل المؤثرات السلبية، في مواجهة المخاوف، والرغبات، والإشكالات، والتعقيدات، فلا يصرفك شيءٌ منها عن الاستمرار في مواصلة السير على هذا الطريق، على الصراط المستقيم، الموصل إلى الغاية العظيمة.
مبادئها عظيمة، ومكاسبها كبيرة، مكاسبها الفوز العظيم، ومنهجها التربوي يزكي النفوس، فيزكي نفسك من الشوائب، التي تؤثر على البعض؛ لأن البعض يحتفظ ببعضٍ من الشوائب السلبية التي تؤثر على النفس، يحتفظ بشيءٍ من الغرور، أو الكبر، أو الطمع، أو الإيثار لهوى النفس… أو أيٍّ من العوامل السلبية التي تبقى حالةً من الاعوجاج في نفسه، يكبر هذا الاعوجاج في مرحلةٍ من المراحل، فينحرف به عن الصراط المستقيم، ويؤثِّر عليه.
الطريق (طريق الاستقامة) التي فيها ما يساعد الإنسان على الثبات، وعلى الاستمرارية، من أهم ما يساعده على ذلك، هو: إدراكه ووعيه وإيمانه بأن الله أنعم عليه بعظيم النعمة عندما وفَّقه لذلك، عندما وفَّقه أن يسير على الصراط المستقيم، أن تكون مسيرة حياته وفق تعليمات الله، ووفق هدي الله “سبحانه وتعالى”، أنها النعمة العظيمة، التي قدَّمها القرآن الكريم على أنها أعظم نعمةٍ أنعم الله بها على الإنسان، حتى صارت هي العنوان العظيم لنعمة الله “سبحانه وتعالى”، في حديثه عمَّا أنعم به على صفوة عباده من الأنبياء والمرسلين، والصالحين من عباد الله، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: من الآية7]، {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}[النساء: من الآية69].
أن تكون في مسيرة حياتك في طريق الحق، في موقف الحق، متحرراً من العبودية لغير الله “سبحانه وتعالى”، لا تعبِّد نفسك إلَّا لله، تسير وفق هديه، وفق تعليماته، وفق توجيهاته “جلَّ شأنه”، هي نعمةٌ عظيمةٌ جدًّا.
أن تقف دائماً موقف الحق، يوم يقف الآخرون موقف الباطل، المواقف التي تخزيهم، المواقف السيئة التي فيها الخزي لهم في الدنيا والآخرة، وتبعاتها عليهم كبيرٌ في الدنيا وفي الآخرة، في الآخرة إلى حدٍ رهيب جهنم والعياذ بالله، فأن تتوفق لأن تقف موقف الحق هي نعمةٌ عظيمةٌ جدًّا، كما قال الله “سبحانه وتعالى”، يذكر عن نبيه موسى “عليه السلام”، الذي استشعر أهمية هذه النعمة: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}[القصص: من الآية17]، نعمةٌ عظيمة.
وعي الإنسان بأنه عندما يسير في طريق الاستقامة، وينطلق في مسيرة حياته على أساس عبوديته لله “سبحانه وتعالى”، فيتقبَّل هدي الله، ويتحرك على أساس ذلك في أعماله، في مواقفه، في مسيرة حياته، أنها نعمةٌ عظيمة، نعمةٌ عظيمةٌ، عليه أن يشكر الله عليها، وأن ينظر إليها على الدوام على أنها نعمة، أن يستشعر هذا على طول الطريق، فلا ينظر إليها وكأنها حملٌ ينوء به، يثقله، يحاول التخلص منه، فينحرف عنها بكل بساطة، وبكل سهولة.
ثمرات هذا الطريق فيما وعد الله به “سبحانه وتعالى” عباده المؤمنين، المتقين، الذين استقاموا، ما وعدهم الله به من النصر، ما وعدهم الله به من العزة، ما وعدهم الله به من التمكين، ما وعدهم الله به من الخير الواسع في الدنيا وفي الآخرة، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}[الجن: الآية16]، حتى في هذا الجانب: في جانب السعة في الرزق، في الفرج، فيما يعانيه الناس من الجدب، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}.
الاستقامة التي هي متكاملة، في أعمال الإنسان، في تصرفاته، في مواقفه، هي الاستقامة المطلوبة، التي لها هذه الثمرة العظيمة، يصل الإنسان من خلالها إلى ما وعد الله به، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}، تتنزل عليهم الملائكة في أهم موقف، في أهم موطن يحتاج الإنسان فيه إلى من يطمئنه، إلى ما يُبَشِّره في مقام يوم القيامة، الذي هو من أهم المواطن، من أهم المواقف، من أهم المواقف، فتأتيه الملائكة في ذلك المقام، الذي تبلغ الحالة بالنسبة لبعض البشر من الفزع، والهلع، والخوف، إلى مستوى رهيب جدًّا، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر: من الآية18]، تطلع قلوبهم تصل إلى حناجرهم من شدة الفزع والخوف.
أمَّا الذين استقاموا، ففي تلك الحالة تتنزل عليهم الملائكة وتطمئنهم وتُبَشِّرهم، وتكون إلى جانبهم، وتتحدث إليهم بما يطمئنهم، وما فيه البشارة لهم، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا}، لا تخافوا من أهوال هذا اليوم، اطمئنوا، فأنتم سينجيكم الله “سبحانه وتعالى” من أهوال هذا اليوم.
{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت: الآية30]، البشارة العظيمة، يقولون: أنتم الآن على مقربةٍ من تحقق هذا الوعد الإلهي، الجنة التي وعدكم الله بها في الدنيا، الآن ستصلون إليها، ها هو يوم القيامة، والذي ستنتقلون فيه إليها.
{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[فصلت: 30-31]، في الحياة الدنيا كنا إلى جانبكم، كنا نعينكم بمقدار ما يأمر الله به، بمقدار ما يُوَجِّه الله به، كنا إلى جانبكم في المواقف الصعبة، في التحديات الكبيرة، نثبتكم عند أمر الله “سبحانه وتعالى” حينما يأمرنا بأن نثبتكم، بما نستطيع أن نمنحكم إياه من الشعور المعنوي، والطمأنينة… وغير ذلك، غير ذلك ضمن المساحة التي يهيئ الله فيها من جانبهم ما يعين به الإنسان، ما يسدد به الإنسان، ما يلهم به الإنسان، ما يوفِّق به الإنسان، وهي دائرة واسعة قد نجهل الكثير منها.
{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، وفي الآخرة ها هم يتواجدون إلى جانبهم، من ضمن ذلك هذه البشارة، هذه الطمأنة، هذا الحضور، هذه المرافقة لهم في مواطن يوم القيامة، والطمأنة المستمرة لهم، حتى يصلون إلى جنة الله “سبحانه وتعالى”.
{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}[فصلت: 31-32]، فيقدمون لهم هذه العناوين التي فيها البشارة الكبيرة لهم، أنهم سيصلون إلى الجنة، الجنة بنعيمها العظيم، بنعيمها الواسع جدًّا، {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}، كل ما يشتهيه الإنسان، ويرغب به مما يمثل حاجةً له ورغبةً له، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، ما تريدونه يأتيكم، ما تطلبونه يوفَّر لكم، كل شيء، أرقى نعيم، أرقى نعيم، وأرقى حياة، وأطيب حياة، فلا ينقص عليكم شيءٌ مما ترغبون به.
تأتي البشارات أيضاً في وعد الله الحق، عندما قال “سبحانه وتعالى” أيضاً: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف: 13-14]، فالله “سبحانه وتعالى” يقدِّم ما يطمئنهم، ما يطمئنهم، ما يبشِّرهم بالفوز العظيم، فلا خوفٌ عليهم، ليس هناك ما تخافه عليهم من أهوال يوم القيامة، ولا من أخطارها، وحتى في الدنيا هم في مواقف الفوز، في المواقف التي هي لمصلحتهم دائماً، لخيرهم في الدنيا، ولعواقبهم العظيمة، عواقبهم الطيبة في الآخرة، عاقبتهم الحسنة في الآخرة، فهم الفائزون في كل الأحوال.
طريق الاستقامة لها عواملها التي تساعد على مواصلة الطريق فيها، لكن سنترك الحديث عن ذلك، والحديث أيضاً عن الجانب الآخر: عن أسباب عدم الاستقامة، والانحراف عن خط الاستقامة، للمحاضرة القادمة.
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛