المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 5 رمضان 1444هـ
| محاضرات السيد القائد | 5 رمضان 1444هـ الثقافة القرآنية:
المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 5 رمضان 1444هـ
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أَيُّهَــــا الإِخْــــوَةُ وَالأَخَوَات: السَّــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُــه؛؛؛
في سياق حديثنا عمَّا تعنيه لنا التقوى في مستقبلنا الأبدي، الآتي في الآخرة، بعد انتقالنا من هذه الحياة المؤقتة، تحدثنا على ضوء الآيات المباركة من سورة الواقعة، والتي بينت لنا الأهوال الرهيبة ليوم القيامة، ليوم القيامة في مرحلته الأولى، التي بها خراب هذا العالم، نهاية السماوات والأرض، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}[إبراهيم: من الآية 48]، الأرض التي تشهد تدميرًا كليًا، وزلزلةً عظيمةً شديدةً تشملها بكلها، كما قال “جَلَّ شَأنُهُ” في الآيات المباركة: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً}[الواقعة: الآية4]، الأرض بكلها تُهَزّ هزًّا عنيفًا، وتشهد زلزالًا عظيمًا، لدرجة أنه يدمر كل معالمها، ينسف جبالها، كما قال في الآية المباركة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا}[ طه: 105-106] يعني الأرض، {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً}[طه: الآية106]، قاعًا مستويةً، {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً}[طه: الآية107]، وكما قال في آيةٍ أخرى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}[الكهف: من الآية 47]، نتيجةً لاستوائها، لم يعد فيها مرتفعات ومنخفضات وغير ذلك، {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً}[الكهف: من الآية 47]، وكما قال هنا في سورة الواقعة: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً}[الواقعة: الآية5]، فُتِّتَتْ، شدة التدمير الكامل لها، لا يبقى شيءٌ من صخورها، ولا كتلها، بل تُتفتت تمامًا، وتتحول إلى ذرات صغيرة من الغبار، {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَّثاً}[الواقعة: الآية6]، هول عظيم، وأحداث كبيرة، تغير معالم الأرض بشكلٍ تام، وتحولها إلى ساحةٍ مستويةٍ للحساب، للبعث عليها.
في النفخة الثانية: يبعث الله الخلائق، ويُحضِر الجميع، لا يستطيع أحدٌ أن يمتنع من ذلك الحشر، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً}[الكهف: من الآية 47]، الكل يُبعث، والكل يحشر، والكل يقف موقف الحساب.
ويؤكد القرآن الكريم على هذه الحقائق، في آيات كثيرة، وفي موارد كثيرة، في السور التي تحدثت عن اليوم الآخر، وعن مقام الحساب، ومقام الجزاء، {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}[يس: الآية32]، لا يمتنع أحدٌ عن الحضور، أو يستطيع أن يتهرب من مقام الحساب.
الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” يربط بين التدمير في مرحلة القيامة الأولى، وما بين المرحلة الثانية، التي هي مرحلة البعث؛ لأنها كلها مترابطة لغايةٍ واحدة: هي القيامة، هي الانتقال إلى مرحلة الحساب والجزاء، ويفصِّل في كثيرٍ من الآيات المباركة هذه المسألة، من مثل قوله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ}[الزمر: الآية68]:
– هناك في المرحلة الأولى: التدمير الكامل للأرض، وإعادة تسوية الأرض لمهمتها الجديدة، التي هي: الحساب عليها، الحشر عليها، والبعث عليها، والحساب عليها.
– ثم في مرحلة الحساب، ومواقف الحساب، تأتي الأهوال الرهيبة، بالنسبة للمنحرفين عن نهج الله، للخائبين، للخاسرين، للذين لم يُعِدُّوا العدة لذلك اليوم، لم يستجيبوا لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” في هذه الدنيا، بما يكون وقايةً لهم من أهوال ذلك اليوم، من مخافة ذلك اليوم، من الرعب في ذلك اليوم.
الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” عندما قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[البقرة: الآية281]، هنا في هذه الحياة: العمل الصالح، الاستجابة لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، التمسك بهدي الله، هو الذي يكون لك سببًا لنجاتك، وفلاحك، واطمئنانك، في يوم القيامة تكون نفسك مطمئنة، تلقى الطمأنينة، وتلقى ما يطمئنك، وتلقى البشارات الواحدة تلو الأخرى، من حين مبعثك في يوم القيامة، كما ورد في القرآن الكريم: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}[ فصلت: 30-32]، طمأنة كبيرة من الملائكة- من بعد عملية البعث- للذين اتقوا ربهم في هذه الحياة، للذين حسبوا حساب ذلك اليوم، للذين كان عندهم اهتمام كبير بمستقبلهم هناك، تبقى حالة الطمأنينة في مقامات الحساب، عندما يؤتى الإنسان كتابه بيمينه، هذه من حالات الطمأنينة، من البشارات، ثم يَطَّلِع على كتابه، وفيه المشاهد التي ترضيه، من الأعمال الصالحة، من الأعمال العظيمة، من الأعمال التي استجاب فيها لتوجيهات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، حالة الاستقامة على منهج الله “جَلَّ شَأنُهُ”، فيستبشر ويطمئن، يقول: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ}[الانشقاق: 19-20]، كنت أستشعر هذا اليوم وهذا الحساب، وبالتالي حسبت حساب ذلك في الاستقامة على منهج الله، في الطاعة لله، في العمل بما يرضي الله، في السعي إلى ما يقربني من الله، وما فيه مرضاة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يكون مطمئنًا.
يقول عنهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ }[عبس: 38-39]، يكون ضاحكًا، مستبشرًا، مرتاحً النفس، مطمئن البال، في مواقف عظيمة، في مقام مهم جدًا، يضحك على أولئك المجرمين، المستكبرين، الصادين عن سبيل الله، وهم في حالة رهيبة جدًا من الذل، والهوان، والندم، والبكاء، والحالة المخزية الرهيبة جدًا، المفجعة، كما في الآية المباركة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}[المطففين: 34-35]، هو على الأرائك ينظر، يتفرج، يشرب من مشروبات الجنة، يأكل من طعامها، في حالة اطمئنانٍ تام.
وأولئك يشاهدهم في حالة رهيبة جدًا، والأهوال التي هم فيها أهوالٌ رهيبةٌ جدًا؛ لأنهم من حين مبعثهم، يُحِسّون بحجم خسارتهم، وفظاعة حالهم، ومستقبلهم في الآخرة، يبدأون يشعرون بحالة الندم، ويبدؤون بالتحسر، بعبارات الندم، بعبارات التحسر: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}[الزمر: من الآية56].
عندما تستمر مقامات الحساب، كلها تخيفهم، كلها تزيد من الحالة التي هم فيها، من القلق الشديد، والخوف الشديد، والاضطراب الشديد، ليس هناك ما يطمئنهم، وليس هناك ما يبشرهم، يؤتون كتبهم وصحائف أعمالهم بشمائلهم، بشماله من وراء ظهره، ويدرك ماذا يعنيه هذا بالنسبة له؟ عندما يطلع على صحيفة أعماله، ويشاهد المشاهد التي هي من المعاصي، التي هي تجسد انحرافه عن نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يصيح: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة: 25-27]، يصيحون بكل عبارات الندم، والتحسُّر، والأسف الشديد، يعضّون على أصابعهم، {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: الآية40]، يتمنون أن لو تُسوَّى بهم الأرض، حالات رهيبة من العذاب النفسي الشديد، لماذا؟ لأنهم يدركون أنهم هم من أوقعوا أنفسهم فيما وصلوا إليه، وأنهم هم السبب فيما وصلوا إليه، قد هُيِّئَت لهم في هذه الحياة أسباب النجاة، أسباب الفوز، أسباب السعادة، ناداهم الله كثيرًا، كثيرًا في كتابه، في القرآن الكريم، في كتب هديه، ومع رسله، عبر رسله وأنبيائه، بحسب الأمم والأجيال الماضية، حسرة الأنسان هي حسرةٌ كبيرةٌ جدًا، يدرك كم كانت خسارته؛ لأنه لم يستجب، لم يلتفت إلى ما يعنيه، إلى ما يعنيه، كم ستكون حسرته وهو يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: الآية24]؛ لأنها حياتك، هو مستقبلك، هو ما يعنيك أنت، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ}، {وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفْسِهِ}[العنكبوت: من الآية6]، هي أمورٌ تعنيك أنت، هو مستقبلك أنت، هو مصيرك أنت، فالتفت إلى ذلك، استجب لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
العرض التفصيلي في القرآن الكريم هو مهم جدًا؛ لأنه يجعلك تتصور تلك المشاهد ذات الأهمية، التي هي حتمية، لابدَّ منها، مشاهد قادمة، أنت تراها هنا في الدنيا، تتصورها في الدنيا، يأتي التقريب لك عنها فيما يقدمه لك القرآن هنا في الدنيا؛ ليكون ذلك مفيدًا لك، إنْ التفتّ إلى نفسك، إن تأملت كتاب الله، إن توجهت على أساس الاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إن سمعت، إن سمعت وتفهمت.
في يوم القيامة مصير الناس إلى أن يقسموا إلى أصناف، وهذا التقسيم مبنيٌ على أعمالهم، التي تحددت بها مصائرهم، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة: 8-11].
الناجون من هذه الأصناف الثلاثة: هم أصحاب الميمنة، أصحاب اليُمن، الذين عملوا الأعمال الصالحة، استجابوا لله، تابوا إلى الله، تخلصوا من ذنوبهم، رجعوا إلى ربهم، استقاموا على منهجه، هم مستقبلهم عظيم، هم إلى مصيرٍ عظيم، شأنهم عظيم، فوزهم كبير، {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}، تعظيمٌ لشأنهم، لحالهم، لفوزهم، ولكن هناك ما هو أرقى، وهم الصنف الثاني من الناجين وهم: (السَّابِقُونَ)، الذين عظَّم شأنهم بتكرير العبارة، عندما قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}، أولئك شأنهم عظيمٌ جدًا، {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[الواقعة 11-12].
في واقع الانتماء الإيماني، والتقوى، والعمل الصالح، والاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الناس درجات، في إيمانهم، {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ}[آل عمران: من الآية163]، كما قال في القرآن الكريم، درجات متفاوتة، في مستوى الإيمان، مستوى الالتزام، مستوى الاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والله “جَلَّ شَأنُهُ” يعلم بكل أعمالهم، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالهم، وكذلك في مستوى استجابتهم، ومستوى أعمالهم، لا يخفى عليه شيءٌ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولا ينقص من عمل عاملٌ منهم مثقال ذرة، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}[النساء: الآية40].
ولذلك فهناك في مستوى العمل تفاوتٌ، في مستوى الاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” تفاوتٌ في أعمال المؤمنين، لكن لا يفوت شيءٌ على أحدٍ منهم عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كما قال في القرآن الكريم: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً}[طه: 112]، لا يمكن أن يُنتقَص من عمله، أو ألَّا تقدَّر جهوده، تصبح مسألة الأعمال، والاستجابة لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، هي المعيار، معيار الجزاء العادل، ليس هناك مثلًا نقص في حق البعض لصالح البعض الآخر، أو مجاملات، فترفع درجات شخص لاعتبار المجاملة، على حساب درجات شخص آخر، أعماله واستجابته لله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” أكبر، لا يمكن، الأمور هناك على معيار العدل، بميزان الله العادل، القائم بالقسط في عباده.
ولذلك يأتي للسابقين الفضل؛ لأن السبق بنفسه فضيلةٌ عظيمة، السابقون الذين يمتلكون روح المبادرة، يستجيبون سريعًا، لا يتأخرون، هذا يدل على حالة التقوى التي يعيشونها، والحرص على رضوان الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وخوفهم من التفريط، والتقصير؛ فلذلك عندهم روح المبادرة، التي تبين مستوى ما هم عليه من التقوى، فهم المقربون، كما قال عنهم: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، يحضون هم بالقربة من الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، بعلوّ المنزلة، بعلوّ الدرجات، بالتكريم المعنوي الكبير، مع النعيم المادي العظيم، يجتمع لهم ذلك، ويقول عنهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}[الواقعة: 13-14].
ثم يتحدث عن نماذج من النعيم الذي هم فيه: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}[الواقعة:15-16]، تلك هي مجالسهم في الجنة، وهو يقدِّم فقط نماذج، يقدِّم في سورٍ أخرى نماذج أخرى، وهكذا.
مجالسهم في الجنة هي مجالس راقية جدًا، في مساكن الجنة الفاخرة، والطيبة، والعظيمة، من بنيان الجنة، ويجتمعون فيها؛ لأن الإنسان كائنٌ اجتماعي، لو أُعطي الإنسان في هذه الدنيا، هنا في هذه الحياة قصرًا، ليبقى فيه وحده طول حياته، لشعر بالضيق، ولكان يحن إلى أن يرى أقربائه، أصحابه، رفاقه، أن يرى من يتحدث معهم، أن يجلس معهم، وبالذات من رفاقه، الإنسان هو- بطبيعته- كائنٌ اجتماعي، ففي الجنة يجتمع الرفاق هناك، الذين جمعتهم في الدنيا أخوّة الإيمان، وخُلّة التقوى، والطريق الصالح، الطريق الذي يرضي الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، الأقارب كذلك يجتمعون، الذين جمعتهم التقوى، وجمعهم الإيمان، وجمعتهم الاستقامة على منهج الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”.
في مجالس الجنة فيها السُّرر الفاخرة، المتميزة، الراقية، ليست أسرّة خشبية بالية، أو متعبة، بل موضونة: منسوجة، محكمة النسج، مضاعفة النسج، مرصعة بأحجار الجنة الكريمة، من اللآلئ والدر والياقوت، كما في الآثار، فهي أسرَّة فاخرة جدًا، في عالم الجنة، في مساكن الجنة، حيث يطيب الجلوس، وتطيب تلك الاجتماعات، بين أولئك.
{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا في راحة واطمئنان وسعادة، وسعادة لا يمكن أن نتخيلها أبدًا، (مُتَقَابِلِينَ): يجلسون سَويًّا في تلك المجالس التي تجمعهم، ليتحدثوا، وهم في سعادةٍ تامة.
مما وصفه القرآن الكريم عن أحاديثهم: استذكارهم لحال الدنيا، وأسباب نجاتهم في الدنيا، كما في الآيات المباركة من سورة الطور: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ}[الطور: الآية25]، يتساءلون عن نجاتهم، وعن أسباب نجاتهم، {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: 26-28]، والله أعلم، كم هي الأحاديث التي يتحدثون بها، المواضيع التي يتحدثون بها؟! كلها شيقة، كلها طيبة، كلها من القول الطيب، كما قال عنهم في الآية المباركة: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}[الحج: من الآية 24]، ليس في حديثهم لغو، ولا إساءات، ولا ما يجرح مشاعر بعضهم البعض، كله من القول الطيب، وهم في ذلك النعيم والسعادة.
{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ }[الواقعة: 16-19]، في مجالسهم تلك، يطوف عليهم الخدم، الذين يقومون بخدمتهم، (وِلْدَانٌ): غلمانٌ في الجنة، غلمانٌ أصحاء سالمين، لا يصيبهم مرض، لا يأتون وهو مصاب بالزكام، أو السعال، أو أيٍّ من الأمراض، التي تنغص تلك الخدمة التي يؤديها، لا، يطوفون عليهم بذلك الشراب، الذي يقدمونه لهم في مجالسهم تلك، من مشروبات الجنة، التي هي في غاية اللذة، والنشوة، والارتياح، {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ}، وأولئك الغلمان تبقى لهم صحتهم، ونضارتهم، لا يهرمون، لا يشيبون، لا يتغيرون، لا يمرضون، أصحاء على الدوام.
(بِأَكْوَابٍ): من أكواب الجنة، التي تحدث عنها في آيات أخرى: {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (16) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً}[الإنسان: 16-17]، أكواب مصنوعة من الجنة، أكواب راقية جداً، أباريق راقية جداً، والمشروب الذي فيها مشروبٌ في غاية اللذة والانتعاش، عندما يشربونه.
{وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ}[الواقعة: من الآية 18]، (مَّعِينٍ): عينٌ نابعةٌ في الجنة، مشروبها لذيذٌ جداً، ومنعشٌ جداً، فيلتذون بشربه، وينتعشون، {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ}[الواقعة: الآية19]، ليست كمشروب الخمر في الدنيا، التي هي بلاء، التي هي مرض، التي هي سببٌ لضر الإنسان، تصيبه بالصداع، تصيبه بالنزيف، تؤثر عليه، على مداركه، على نفسيته، على عقله، على وعيه، ذلك المشروب الراقي في الجنة، جمع بين اللذة والانتعاش، والارتياح به، دون أي تأثيراتٍ سلبية، لا على النفسية، ولا على الوعي، ولا على الصحة البدنية للإنسان، فيشربونه في اجتماعاتهم، وهم يتبادلون الحديث فيما بينهم، ويرتاحون بتلك اللقاءات والجلسات، قد أمنوا من الفزع الأكبر، أمنوا من عذاب الله، اطمأنت أنفسهم، واستقرت حياتهم في ذلك النعيم العظيم.
{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}[الواقعة : الآية20]، في الجنة الفواكه الكثيرة جدًا، الكثيرة الأصناف، المستمرة، التي لا تنقطع في مرحلة من المراحل، ليست فقط موسمية، ولا يتعبون عليها، لا يحتاج إلى أن يذهب ليشتغل، ويكد، ويعاني، ويسهر، ويتعب، تتوفر لهم، وتقدَّم إليهم، ولكثرتها، وكثرة أصنافها، وأنواعها، يترك لهم الاختيار، في هذه المرة ما يختاره منها، في تلك الأخرى ما يريده منها، فقط يختار، وهم يقدمونها إليه، تصل إليه بدون عناء ولا تعب.
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة : الآية21]، اللحم متوفر هناك، ومنه لحم الطير، بأصنافه المتوفرة في الجنة، والتي هي راقية جدًا، وحسب ما يشتهون، (مِّمَّا يَشْتَهُونَ): على حسب ما يرغبون به، طعامهم بأنواعه متوفر، من دون عناء، من دون تعب، بأرقى أنواع الطعام، بأحسن أنواع الطعام، الذي يشتهيه الإنسان.
{وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}[الواقعة: 22-23]، وفي الجنة- مع المساكن الطيبة، مع أنواع الطعام، الذي هو من أحسن الطعام وأرقاه، وبقية أنواع النعيم- تتوفر الحور العين، الزوجات في الجنة، التي هُنّ فائقات الجمال جدًا، بما لا يتخيله الإنسان، في جمال عيونهن، وفي جمال أجسادهن، {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}، اللؤلؤ المصون، الذي يحتفظ ببياضه الناصع جدًا، والجميل للغاية.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الواقعة : الآية24]، النعيم الذي هم فيه، وهذه فقط نماذج، نماذج محدودة منه، هناك في بقية الآيات القرآنية أنواعٌ أخرى من النعيم، تحدث مثلًا عن ملابسهم في آيات أخرى، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا}[الحج: من الآية 23]، في الجنة، {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}[الحج: من الآية 23]، الأساور: الزينة التي يلبسونها في أيديهم، من الذهب واللؤلؤ، من ذهب الجنة، الذي لا يساويه ذهب الدنيا، ولا يقارن به أصلًا، واللؤلؤ كذلك في الجنة، الذي لا يساويه، ولا يُقارن به اللؤلؤ في الدنيا، {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: من الآية 23]، {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف: من الآية 31]، ملابسهم من حرير الجنة، الحرير الناعم، الحرير: الذي هو أفخر أنواع الثياب، وأحسن أنواع الثياب، يقول عنهم، في حالهم، فيما هم فيه من أصناف النعيم، والحالة الراقية جدًا، والمعيشة المتميزة، الخدم تخدمهم، ما يريدونه يُوفّر لهم، السعادة التي هم فيها، الإمكانات المتوفرة لهم، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان : الآية20]، النعيم، والملك الكبير، هذا يقول عنه: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، العمل: هو الذي يحدد مصيرك، مستقبلك، وتكافأ عليه.
والعمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا، حتى الأعمال التي هي في إطار فضيلة السبق، والمبادرة إليها، هي أعمال في وسع الإنسان، في طاقته، الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” فيما أمرنا به، أمرنا بما نطيقه، بما هو في وسعنا، أكثر وأوسع حتى من مسألة الطاقة، في مقدورنا، بإمكاننا أن نعمله، بل إن الناس يعملون خارج إطار ما يعملونه لرضوان الله وللجنة، لبعض شؤون حياتهم، ما هو أصعب، ما هو اشق، ويتعبون على ذلك أشد التعب، ويبذلون الجهد؛ لينالوا أشياء بسيطة جدًا، لا تساوي شيئًا مما ينالونه في الآخرة، وليس من المشكلة أن يكون عند الإنسان اهتمام بأموره المعيشية، بل يمكن أن يجعل هذا جزءًا حتى من اهتمامه الإيماني والديني، وقربةً إلى الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، لكن عندما يربطه بعمله وسعيه للآخرة، ويجعله جزءًا من سعيه للآخرة، ويجعله في إطار توجيهات الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” وتعليماته، يلتزم بما أمره الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، يعمل في دائرة الحلال، ينفق، يؤدي مسؤولياته في هذه الحياة، المرتبطة بسعيه ذلك، لكن يتصور البعض وكأن الأعمال التي ننال بها رضوان الله والنعيم العظيم، ونؤمّن مستقبلنا في الآخرة، وتكون سببًا لرحمة الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، والفوز بما وعد به وبالجنة، يتصورونها وكأنها أعمال مستحيلة، ليست مستحيلة!
الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” قال في القرآن الكريم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل: 5-7]، (لِلْيُسْرَى): هي الطريق المتيسرة، التي يسرها الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعلمنا أيضًا أن نستعين به ونحن نسير فيها، وأن نقول: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: من الآية 5]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}[الفاتحة: من الآية 5]، نعبده “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، ثم يقول: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة من الآية 5]، علمنا أن نستعين به، وهو خير معين.
الأعمال العظيمة، التي لها أثر كبير، وقيمة عالية، في الأجر، والثواب، والقربة الى الله، وسبب للتوفيق الإلهي: هي أعمال ضرورية للناس، لاستقامة حياتهم، لصلاح حياتهم، لدفع الشر عنهم، كالجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله هو من أعظم الأعمال، سمَّاه تجارة، قال عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف: الآية10]، تجارة لماذا؟ لأن ربحه عظيم، الأجر عليه عظيمٌ جداً، بقية الأعمال عليها الأجر إلى مستوى معين، الحسنة بعشرة أمثالها، لكن الإنفاق في سبيل الله، يُضاعف بسبعمائة ضعف، سبعمائة ضعف، يتحدث عنه في القرآن الكريم في سورة البقرة، ثم لا تزال المضاعفة متاحةً بأكثر من ذلك بكثير، بحسب الظروف والأحوال، والحالة الإيمانية، التي يكون الإنسان عليها في عطائه وعمله، القتال في سبيل الله، بقية الأعمال في سبيل الله “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى”، التي تحت عنوان الجهاد في سبيل الله، أجرها عظيمٌ جداً، تجارة، تجارة، مدخول التاجر كبيرٌ في يومه، بحسب تجارته، يختلف عن مدخول العامل العادي، وهكذا هو الفرق مثلًا ما بين تفاوت الأعمال والأجر عليها، ومستوى فضلها، ومستوى الأجر عليها.
{تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الصف: 10-12]، عمل عظيمٌ جداً، أجره عظيم، نحن بحاجةٍ إليه؛ لأنه وسيلة يدفع الله بها عنا شر أعدائنا في هذه الحياة، وسيله نعيش من خلالها في منعة، وعزة، وقوة، وحماية من شر الأعداء، ومن الذل، والاستعباد، والهوان من جانبهم، حماية للأمة، قوة للأمة، عامل بناءٍ ونهضةٍ للأمة.
وهكذا بقية أعمال الخير، المصالح العامة، التي إذا تحرك الناس فيها بشكلٍ جماعي، فهي لمصلحتهم هم، فوائدها لهم، نتائجها لهم، عوائدها لهم، خيرها لهم، وهي من التعاون على البر والتقوى.
فالأعمال التي يعملها الإنسان، وينال بها ذلك الأجر العظيم، هي أعمالٌ لمصلحته في الدنيا، لها الأثر الإيجابي، على نفسيته، على واقعه التربوي، على سموه الإنساني، ولها أهميتها في واقع حياته، تضفي طمأنينة على نفسه، لها نتائج إيجابية في عاجل الدنيا، سببًا حتى لرعاية الله له في الدنيا، مثلما تحدثنا عن ثمرة التقوى في هذه الحياة، ثم يؤمّن مستقبله العظيم في الآخرة.
ثم مسألة المعاناة، أو المشاق، أو المتاعب، أو الصعوبات، هي جزءٌ من حياتنا، أولئك الذين أعرضوا عن مستقبلهم في الآخرة، ولم يهتموا أصلاً بذلك، واتجهت كل اهتماماتهم لعاجل الدنيا، وللمصالح الدنيوية، وللعاجلة، هل هم في منأى عن المتاعب، عن الصعوبات، عن المشاق، عن المعاناة، عن المخاطر؟ هم يعيشونها بأكثر ممن لديهم اهتمامات بأمر آخرتهم أيضا، مع اهتماماتهم بأمور حياتهم في الدنيا، أولئك- كذلك- يتعبون، يعانون، يشقون، والكثير منهم قد يكون فقيرًا جدًا، في غاية الصعوبة، والعناء، والشقاء، والنكد في حياته، ومع ذلك لا يفكر في أمر آخرته، مع أن هذا المجال مفتوح لكل الناس، فضيلة العمل الصالح، الأعمال التي تصل بها إلى الجنة، ليست خاصة بالتجار، أو الأغنياء والأثرياء، هو مجالٌ مفتوحٌ لكل الناس: للفقير، والغني، لا يتطلب مقامًا اجتماعيًا معينًا، أو ثروةً معينة، لكل الناس، مجالٌ مفتوحٌ لكل عباد الله، ولا يحتاج الإنسان في مقابله أن يكون مثلاً إمَّا من الأغنياء، أو من ذوي النفوذ، أو له مكانة اجتماعية معينة، أو منصب معين، أو سلطة معينة، لا، بل البعض من أولئك قد يكون ذلك سببًا في هلاكه، وشقائه.
فالمجال مفتوح، والأعمال متاحة، والطريق مهيأة؛ إنما كيف يتجه الإنسان ليصل إلى ذلك النعيم: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، تلك الأعمال التي في وسع الجميع.
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً}]الواقعة :الآية25[، ليس هناك ما ينغص ما هم فيه من النعيم، حتى على مستوى الكلام الجارح، أو الكلام السيء، أو الكلام الذي لا إيجابية له، يسيء إلى الإنسان أو يسيء إلى حياته، كما قال الله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}[الحج: من الآية24]، الإنسان لا يسمع هناك لغوًا، ولا يسمع تأثيمًا: عبارات جارحة تُوجَّه إليه، تنتقص منه، تسيء إليه، تستفزه، الإنسان يعيش حياة طيبة، ليس هناك ما ينغص عليه ما هو فيه من النعيم، حتى على مستوى الكلمة الجارحة، لا يسمع كلمة جارحة، ولا مستفزة، ولا مسيئة أبدًا، يعيش مرتاح البال، مطمئن النفس للأبد، في الدنيا هل يتهيأ للإنسان، حتى لو حصل على ظروف معيشية لا بأس بها، كم هي المنغصات؟ المنغصات كثيرة جدًا.
{إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً}]الواقعة :الآية26 [، القول الذي يسمعونه هناك كله قولٌ سليمٌ، مما يستفز الإنسان، مما يسيء إليه، مما يشوّه، مما يجرح المشاعر، مما يسيء، كله قولٌ سليم، ويسمعون أيضًا يأتيهم السلام، {سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}]يس :الآية58[، سلامٌ من الله، الملائكة تسلم عليهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ}]الرعد :24[، هم يسلمون على بعضهم البعض، والقول كله سليمٌ، من كل ما يسيء، من كل ما يستفز، من كل ما يؤذي، من كل ما يجرح المشاعر، من كل ما يسيء إلى الإنسان، كله كلامٌ طيب، لا يسمع إلا الكلام الطيب، يعيش في وضعٍ محترم، الكل يحترمه، الكل يقدره، وليس هناك من يحتقره، أو يستفزه، أو يسيء إليه، أو يجرح مشاعر، حياة هنيئة بكل ما تعنيه الكلمة، وللأبد، للدائم.
نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ “سُبحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء، وَنَسأَلُهُ أَنْ يَتَقبَّل مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَام، وَالقِيَام، وَصَالِحَ الأَعْمَال.
وَالسَّــــلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَــــةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتـــُه؛؛؛