العقل العربي بين التفكير العلمي والتفكير الغيبي. بقلم/ محمد حسن زيد
| مقالات وكتابات | 2 محرم 1445هـ الثقافة القرآنية:
العقل العربي بين التفكير العلمي والتفكير الغيبي.
بقلم/ محمد حسن زيد
لماذا توجد فجوة بيننا وبين الغرب؟
هل هناك مشكلة في طريقة تفكيرنا تُعيقنا عن اللحاق بهم؟
وكيف نعالج هذه الفجوة؟ وكم نحتاج وقتا لعلاجها؟
البعض يُقسم العقولَ إلى قسمين: عقل مؤمن يقفز إلى الغيبيات في استنتاجاته بشكل سريع ومريح، وعقل علمي يبحث عن الأسباب والمسببات والأنظمة والقوانين واستخلاص القواعد ويظل في شوق ونهم لمعرفة ما أمكن فحصُهُ وبحثُهُ وتجريبُه..
ويقال إن سبب تخلفنا عن الغرب هو عقلنا العربي المؤمن الذي اعتاد القفز الى نتائج غيبية ليريح رأسه من البحث عن أسبابها المادية ومسبباتها وتفاصيلها.. فهل هذا صحيح؟
وبحسب هذا التقسيم فالعقل المؤمن يُوصف بانه يرى في الأشياء مرآة للتسبيح فقط، ولا يعنيه كيف يطير الطيرُ ولا يتساءل هل تتنفس السمكة في الماء ولا يفكر كيف يتحول الماء والتراب عبر الشجرة إلى ثمار مختلفا ألوانُها، هو يهتم فقط بالتسبيح والتعجب!
بينما العقل العلمي يحاول ان يفهم ميكانيكية عمل الأشياء ويصفها ويضع القواعد المتحكمة فيها وذلك لا يعني انه لا يُسبّحُ خلال هذه الرحلة الشيقة بل هو يُسبّح لكن بطريقة مُختلفة، فعمل العقل نفسه وقدراته الهائلة على التحليل والإبداع والخيال لا تقل جمالا عن أي خلق بديع نتعجب حين نراه فنُسبّح بحمد خالقه.
فإعمال العقل تسبيح بحد ذاته، وعملُ العقل يبعث على التسبيح حين يكشفُ تفاصيلَ عجيبة مذهلة عن الحياة والكون ما كانت لتُكتشفَ لولا العقول الجبارة التي أمعنت النظر فيها.
وعمل العقل رغم انه يتعاطى مع أمور مجردة تتجاوز الحس وتُثبت هيمنتَها على الواقع كالأرقام والحساب إلا ان ذلك يعزز قدرته على افتراض أمور غيبية تتجاوز حسه تتحول بعد الإثبات والبرهان والدليل إلى حقائق علمية قاطعة يبني عليها نظريات أعلى أكثر تعقيدا وجمالا كالجاذبية والإلكترونات وغيرها مما لا يمكن للبشر إدراكه حسيا ويُكتفى في الحكم عليه بملاحظة آثاره للاستدلال على وجوده والقطع بتأثيره.
ولا أحسب جواب الله تعالى للملائكة حين استنكروا استخلاف بني آدم على الأرض قائلين “أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء” فكان جوابه عز من قائل: (قال إني أعلم ما لا تعلمون) ولو قُدّر لنا أن نستطلع انطباع الملائكة اليوم عن رأيهم فيما وصل إليه بنو آدم على الأرض من البناء المادي فلربما سنكتشف انهم قد أدركوا جزءا من معنى قوله تعالى لهم: (إني أعلم ما لا تعلمون) فبنو آدم على كثرة عيوبهم ورغم سفكهم لملايين الدماء إلا ان ما أنجزوه في الكفة الأخرى مذهل بكل المقاييس، ويكفي أن نتأمل ما شيدوه عبر العصور من بناء وتكنولوجيا وفنون ومشاريع ضخمة وإنجازات عملاقة كما خرج من بين ظهرانيهم أنبياء ومصلحون وعظماء رغم حرية الاختيار.. كل ذلك لكي ندرك نحن والملائكة عظمة خالق البشر الحكيم ونُسبّح بحمده ونُقدّس له.
والسؤال الهام هنا هو:
هل العقل المؤمن لا يُحسن سوى التسبيح فقط؟
وهل العقل العلمي لا يرى أكثر من المادة؟
هل بالإمكان أن يُوجدَ عقلٌ مؤمن يُفكر بطريقة علمية؟
وهل بالإمكان أن يُوجدَ عقلٌ علميٌّ يقفز به إيمانُه للقطع بغيبيات؟
إذا كان معظم العلماء وكبارهم هم من المؤمنين بغيبيات (بطريقة أو بأخرى) فلم يحجب إيمانُهم قدرتَهم على الخيال والتعلم ولم يَحُدَّ من آفاقهم الفكرية الرحبة؟
ثم ما الذي ربط العقل المؤمن بالتسبيح فقط؟ ما الذي ربط العقل العربي بالفوضوية والحماقة والجهل رغم ان المسلمين كانوا هم السباقين في مجال العلوم الطبيعية، الملهمين لأوروبا في هذا المجال؟
إن تصوير العقل المؤمن عقلا فوضويا مسطولاً بالطقوس مهووسا بالنصوص على حساب الأخذ بالأسباب معاديا للعلوم مستهينا بها وبأهلها رغم انه يشهد بنفسه حجمَ التفوق التكنولوجي الذي ينعم به الغرب كما يعلم ان المسلمين اليوم أصبحوا قابعين خاضعين لهذا الغرب لأنهم في درك السلم الحضاري وفق المعايير المادية، لذلك نعلم ان المساهمة في ترسيخ هذه الفكرة عن العقل المؤمن انما تخدم الإلحاد وتُروّج له وتمنحه الحق في احتكار التقدم التكنولوجي وإبهار البشرية ثم تُعينه على الصد عن سبيل الله بذلك الإبهار والاحتكار!
ولأننا كنا نفخر دائما بأن دين الإسلام هو دين العقل وحرية الاختيار (بخلاف مذهب المُجبرة الذي يُلغي حرية الاختيار ويُدين حكم العقل) فدين الإسلام يحثّ على تحمل المسؤولية والاعتراف بالأسباب وتأثير المسببات (بأمر الله وفي ظل سلطانه دون أن نقطع صلة أي شيء بالله فلا شيء يقوم إلا بالله وتمكينه)، لكن العقل العلمي ليس محصورا في مجال صناعة الطائرات المسيرة (كما تفعل فصائلُ المقاومة) أو صناعة التفخيخات (كما يفعل تنظيم داعش) بل العقل العلمي هو أسلوب تفكير عام ينعكس على أسلوب الحياة والإدارة لتصبح قيادةُ الأمور به قيادةً منظمة تتحرى التنسيق والتناغم والكفاءة والفاعلية المثلى في الأداء وتهتم بالتفاصيل في كل شيء وتتحرج من التواكل والإهمال ولا تبني استراتيجيتها على المعجزات والخوارق، لذلك فهي طوال الوقت حريصة على التطور كحرصها على التفوق منفتحة على الصواب متعطشة للمعرفة وهي أوعى من أن تستهين بشيء من العلوم (مع مراعاة الأولويات طبعا)، ولأنها رائدة في مجال التفكير العلمي فهي لا تسمح لأحد أن يخدعها باسمه ولديها القدرة على التفريق بين الغث والسمين في نطاقه.
التنظيم والعمل الجماعي
التنظيم والعمل الجماعي مُلازمٌ للعقل العلمي، بل يكاد يكون وجها آخر له، وديننا الحنيف يحثُّ على التنظيم والعمل الجماعي وعلى أن نكون صفا كأننا بنيان مرصوص ويحثنا على صلاة الجماعة في تنظيم دقيق وانضباط شديد ويأمرنا بصلاة الجمعة الجامعة ويخصها بالوجوب حيث يتعلم المسلم فيها الحضور والاستماع بهدوء وإنصات وانضباط، وقطعا.. لا يمكن أن نتصور عملا جماعيا دون نبذ الفوضوية والفردية والأنانية (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، (إن الله يحب الذين يُقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) ينبغي أن يعود التنظيم والعمل الجماعي تَديُّناً في العقل العربي المؤمن لكي يستعيدَ سمات عقله العلمي المفقود وريادته للبشرية، وإذا بقي العقلُ العربي هكذا يعمل بشكل فردي ارتجالي أناني دون تنسيق أو تخطيط كأننا أمة فوضوية ساذجة تعجز عن هداية نفسها فكيف لها ان تكون (هُدىً للعالمين)؟
والله المستعان،،،